16-فبراير-2020

موجة جديدة من الهجرة في لبنان بسبب الأزمة الاقتصادية (shutterstock)

حسب الأرقام المتوافرة، غادر 62 ألف لبناني البلاد في 2019. لم يرجع أحد منهم. بالمقارنة مع الدول الكبيرة، سيبدو هذا الرقم صغيرًا، وهو أقل من عدد الذين شاهدوا "دربي" ميلانو بين ميلان وإنتر في سان سيرو، أو الذين يشاهدون مباريات برشلونة في الكامب نو. لكن المشاهدين يعودون إلى بيوتهم، أما اللبنانيين، فلم يعودوا.

هاجر مئة ألف لبناني في عامين. باستمرار هذه الوتيرة، كما هو متوقع، لخمس سنوات أو أكثر، فهذا يعني أن 10 بالمئة من اللبنانيين، سيغادرون بلا عودة

حسب "الدولية للمعلومات"، صاحبة الإحصاء الأخير، سبقهم 42 ألفًا في العام الفائت، أي مئة ألف ونيف في عامين، ما يقارب في مجموع السنتين 10 بالمئة من المليون. باستمرار هذه الوتيرة كما هو متوقع لخمس سنوات أو أكثر، فهذا يعني أن 10 بالمئة من اللبنانيين، سيغادرون بلا عودة. يعني هذا، أننا بدأنا نتحدث عن "الموجة الثالثة" من الهجرات الكبيرة.

اقرأ/ي أيضًا: دفعة جديدة على حساب اللبنانيين: ما الذي سيحدث بعد تسديد اليوروبوندز؟

وحسب إحصاءات سابقة لـ"مجلس الإنماء والإعمار"، هاجر 820 ألف لبناني في الأعوام الـ17 التي تلت انتهاء الحرب اللبنانية. أرقام المجلس، تعود إلى 2008، أي أنها سبقت أحداثًا كبيرة، ضاعفت الهجرة. وبحسابات تقريبية، يمكن أن نتحدث عن أكثر من مليون مهاجر لبناني منذ نهاية الحرب، لتكتمل بذلك "الموجة الثانية"، التي هيأت الظروف للموجة التي نشهدها اليوم. موجة الانهيار الاقتصادي.

وبمراجعة دقيقة لإحصاءات "الدولية للمعلومات" الجديدة، ولإحصاءات "مجلس الإنماء والإعمار" لسنوات العقد السابق، يمكن تقسيم هجرة اللبنانيين إلى شرائح:

  • 1991 – 2008    820 ألفًا
  • 1992 – 2014    508 ألفًا
  • 1995 – 2010    218 ألفًا
  • 2011 – 2013    175 ألفًا
  • 2018 – 2020    102 ألفًا
  • 2016                 11 ألفًا
  • 2017                 18 ألفًا
  • 2018                33 ألفًا
  • 2019                60 ألفًا

 

إلى أين؟

لم يعد تمثال الحرية مبهرًا. الذين يهاجرون اليوم، لن يفتحوا أعينهم على مصراعيها، عندما تتلألأ أمامهم أضواء نيويورك. لن يصدح صوت من بينهم، ويقول بصوت مرتفع "أميريكا"، كما يحدث في "أسطورة 1900" لجوسيبي تورناتوري. العالم الجديد لم يعد جديدًا. لكن الهجرة القاسية من بلادنا ما زالت تحدث. وفي أي حال، فهم الهجرة بشكل مستقل عن آثار النطاق الكولونيالي ليس ممكنًا، بموازاة الانتباه إلى وجود خصوصيات متباينة تؤثر في حجم الهجرة واتجاهاتها.

في لبنان، يمكن الحديث عن ثلاث موجات من الهجرة، وعدة وجهات تتفاوت بتفاوت الزمن. فإضافة إلى الفترتين "المعاصرتين"، اللتين سبق ذكرهما، خلال الحرب وبعدها كحقبة أولى، والفترة الحالية منذ إعلان الأزمة الاقتصادية كحقبة ثانية، هناك فترة "تأسيسية" للهجرة اللبنانية. نتحدث عن الموجة الأولى، التي بدأت في قرن الهجرة، وتحديدًا في الفترة من أواخر القرن التاسع عشر، وصولًا إلى منتصف القرن العشرين. الوجهة كانت تقريبًا معروفة، وتمّثلت بالقارتين الأمريكيتين.

رغم ذلك، فإن الحديث اليوم عن أكثر من عشرة ملايين لبناني في أمريكا الجنوبية عمومًا، في البرازيل خصوصًا، ليس دقيقًا. ما تشير إليه الإحصاءات، هو أن هناك أكثر من عشرة ملايين مواطن "من أصول لبنانية" هناك. معظم هؤلاء، لا يتحدثون العربية، وليس لديهم أي جوازت سفر لبنانية. كل ما يملكونه – ليس جميعهم طبعًا – هو بقايا قصص سمعوها، عن بلد صغير في غرب آسيا، جاء منه أجدادهم. وقد يستبدلون "غرب آسيا" بالمصطلح الاستعماري، أي "الشرق الأوسط". نتحدث هنا عن "الموجة الأولى" من هجرة اللبنانيين غربًا، أي الهجرة التي كانت في سياق هجرة "شامية" عامة، وعالمية "أعم" منها، إلى العالم الذي كان لا يزال جديدًا آنذاك. مع الوقت، انقطعت أخبارهم. يبست الجذور وابتلعتها تربة الزمن.

تفاصيل "اندماجهم" أو عدم عودتهم، مرتبطة بسياقات جيوسياسية تحتاج إلى دراسات مفصلة. ثمة مشتركات بين المهاجرين، وثمة اختلافات أيضًا. وبعد الأحلام الأمريكية في بدايات القرن الفائت، اتسعت دائرة الهجرة من جنوب لبنان إلى أفريقيا خلال الحرب، وإلى أستراليا من شمال لبنان، أو إلى فنزويلا من جبل لبنان، بموازاة اكتشاف الخليج بعد الحرب من معظم المناطق اللبنانية. أما أوروبا، التي تعد "قبلة" المهاجرين في العالم، فعرفت "مجتمعات" لبنانية مهاجرة، بدأت قبل الحرب مثلما هي الحال في فرنسا، أو تطورت خلال الحرب كما هي الحال في ألمانيا. لكنها ليست مجتمعات ضخمة، مثل الوجود المغاربي في هولندا، أو الجزائري في فرنسا، أو حتى التركي في ألمانيا. عمومًا، أثر الهجرة اللبنانية الوازن، موجود في آخر العالم، وقد حدث منذ زمن بعيد، تحديدًا في أمريكا اللاتينية.

محددات لفهم الهجرة

يمكن لهواة نقد الاستشراق الاسترخاء قليلًا، فهذا العرض ليس للدفاع عن الشرق، أو عن تمثيلات الشرق المتخيّلة في عقل الغرب الذي يتخيّل نفسه مركزًا للعالم. وليس دعوة للبقاء، للمقاومة، أو للنضال لتصحيح الصورة الخاطئة عن الوطن، السفر، أو أي شيء من ذلك. هذا العرض، هو مجرد عرض. لكن لا مانع من "التنغيص" قليلًا على محبي الاستشراق، وربما ضحاياه، بتذكيرهم أن مقاربة الهجرة في أي من سياقاتها، غير ممكنة من دون فهم ثلاثة عناصر، مستعارة من إدوارد سعيد نفسه: السُلطة، الموقع، والمصالح.

اقرأ/ي أيضًا: في بيروت.. زحمة يا دنيا زحمة

السُلطة والموقع لاستكمال تحديد العنصر الجيوسياسي المرافق لأي تحليل عن الهجرة، والمصالح التي تتخذ شكلًا اقتصاديًا منطقيًا. لفهم هجرة اللبنانيين، في سياق هجرة العرب وليس من خارجه بأي شكل من الأشكال، يجب أن يركن إلى هذه النقاط لفهم دوافع الهجرة نفسها، كعملية جماعية أو فردية، تحدث بوتيرة بطيئة أو سريعة. وإلى جانب الأزمة الاقتصادية التي يسببها احتكار رأس المال من الأوليغارشية، والتي تعد سببًا واضحًا ومباشرًا للهجرة، من مهام الباحثين تقييم فرضيات عديدة ناتجة عن هذا الاحتكار، وتوضيح مسارات الهجرة انطلاقًا من الواقع، وليس من المخيال اللبناني التعيس عن إرث الفينيقيين المسافرين والمغامرين.

ما يهمّ المهاجرين اللبنانيين اليوم، هو بالضبط ما كان يهمّهم خلال موجات الهجرة الكبيرة: الهرب

ما يمكن الاتفاق عليه، في خاتمة العرض، هو أن عودة الجزء الأكبر من المهاجرين ليست متوقعة في ظل الظروف الاقتصادية السياسية. وقد يحلو للبناني المنبهر بالأدبيات الاستعمارية أن يعتبر عدم العودة نوعًا من "الاندماج". غير أن هذا "الاندماج"، تحديدًا بمعناه الذي تطرحه المركزية الكولونيالية، هو مصطلح ملّطف للانسحاق. والإنسان الذي كان ضحية الفترة الكولونيالية، بهجرته أمس، هو إنسان معرّض للنتيجة ذاتها عندما يهاجر اليوم، ضمن شروط الكولونيالية نفسها لتأكيد هيمنتها. أما ما يهمّ المهاجرين اللبنانيين اليوم، فليس كل هذا، بل بالضبط ما كان يهمّهم خلال موجات الهجرة الكبيرة: الهرب.