11-فبراير-2020

احتجاجات أمام مصرف لبنان (تويتر)

قبل عام تقريبًا، وبعد تشكيل حكومة سعد الحريري - التي سقطت أخيرًا تحت الضغط الشعبي - زار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة القصر الجمهوري. بعد لقاء "هادئ" مع رئيس الجمهورية، ميشال عون، أطلق سلامة أحد تصريحاته "التطمينية". فحوى التصريح قد يبدو اليوم بالنسبة للبنانيين أشبه بمزحة طريفة. نُقِل عن سلامة قوله آنذاك إن "الدولار الأمريكي صار معروضًا في السوق المحلية لشراء الليرة اللبنانية". وطبعًا، شرح سلامة أن هذه العملية من شأنها تحسين وضع الليرة وتاليًا تحسين الادخار. إلى ذلك، أكد أن سندات اليوروبوندز ارتفعت بنسبة عشرة بالمئة، بالمقارنة مع أسعارها قبل تشكيل حكومة الحريري.

غالبًا، سيدفع مصرف لبنان القيمة المتوجبة قريبًا في آذار/مارس من احتياطي العملات الأجنبية. وحسب التجربة، يحق الافتراض أنه لن يرّف له جفن عند الحديث عن نقص المستلزمات الطبية، أو عن استيراد الطحين

جاءت حكومة الحريري، حكومة الوحدة الوطنية طبعًا، كما يحلو لأفرقائها تسميتها، وتدريجيًا، بدأت المصارف تمنع السحوبات بالدولار. تدريجيًا أصبحت عملية احتجاز الودائع "ممنهجة"، ومن دون أي تدخل من الدولة، إلا لحماية المصارف من سخط الناس. هذا ما يفهمه الناس، وهذا ما يشعرون به في لبنان. الأصح، ما يعرفونه: علاقة الدولة الذيلية بالمصارف.  في أي حال، كانت المصارف قد بدأت بهذه الإجراءات قبل أسابيع على اندلاع الانتفاضة.

اقرأ/ي أيضًا: المصارف اللبنانية: إذلال الناس أو الإضراب

في هذه الأجواء وفي منتصف الانتفاضة، سدد المصرف المركزي دفعة لعيون "الدائنين". وقبل الأرقام، يجب الإشارة إلى أن قيمة ما سدده المصرف المركزي، تعادل قيمة استيراد الدواء والمعدات الطبية لما يسد حاجة اللبنانيين طوال عام كامل. وهذا الموضوع لم يعد تحذيرًا، بل صار أمرًا واقعًا في ظل معاناة المستشفيات اللبنانية من انقطاع في الكثير من المعدات والأدوية.

إلى ذلك، فإن المصارف التي لها الحصة الأكبر من الدين، ما زالت تمتنع عن إعطاء الودائع لأصحابها. خفضت قيمة سحب الدولار إلى مئة دولار في الأسبوع أحيانًا. ورغم كل شيء سدد مصرف لبنان الدفعة للدائنين، وأدار ظهره لمواطنيه. في سياق الدفعة القادمة التي ستستحق في 9 آذار/مارس على سندات يوروبوندز بقيمة 1.2 مليار دولار، كأصل الدين، و143 مليون دولار كفوائد، كثرت الترجيحات والسيناريوهات. لكن قبل الحديث عنها، يجب الاشارة إلى مجموعة نقاط استدلال أساسية:

  •  في العام الماضي (2019) ساعد المصرف المركزي الحكومة على تسديد سندات يوروبوندز بقيمة 5 مليارات دولار تقريبًا. وخلال الانتفاضة، في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2019، سدّد مصرف لبنان الشريحة الأخيرة التي استحقت بقيمة إجمالية مع فوائد بلغت 1.58 مليار دولار.
  • السندات التي تستحق هذا العام، هي ثلاثة: 1.2 مليار دولار في آذار/مارس (540 مليون منها دين خارجي)، و700 مليون دولار في نيسان/أبريل (182 مليون دولار دين خارجي)، و600 مليون دولار في حزيران/يونيو (30 مليون دولار دين خارجي).
  • ارتفعت عوائد السندات المقومة بالدولار بنسبة 200٪، وعند تشكيل حكومة حسان دياب، استقرت النسبة على 180٪. لكن في جميع الحالات، لا يبدو وأن المصرف المركزي قادر على الذهاب إلى خيار استبدال سندات اليوروبوندز التي تستحق هذا العام، من دون تغطية الحكومة.
  • الاقتراح الذي قدمه سلامة، وما زال موقف المصارف منه غامضًا، هو أن تستبدل المصارف سندات آذار/مارس المقبل، بسندات أخرى، على أن تكون طويلة الأجل. وفقًا للمعطيات، لا يبدو أن الدائنين الداخليين متحمسين لهذا الاقتراح، وفي نفس الوقت، فإن الفريق الذي شكّل هذه الحكومة لم يكن متحمسًا لاقتراح سلامة. وإن كان عدم حماسة المصارف مفهومًا، كمؤسسات تبغى الربح الفاحش قدر المستطاع، فإن موقف ممثلي مصالح الأوليغارشية والأحزاب صاحبة الولاءات الخارجية، الذين يسمّون أنفسهم "سياسيين"، يتذرع بتصنيفات المؤسسات الائتمانية، التي قد تخفض التصنيف السيادي. لكن بات واضحًا أن الفريق السياسي اللبناني التقليدي، الذي شكّل الحكومة والذي عارضها، لا يمكنه اتخاذ إجراءات لا توافق عليها المصارف.

من الناحية القانونية يحق للمصرف المركزي إدارة محفظته من السندات، لكن وزير المالية رفض عرض التأجيل، والذي قضى بمبادلة السندات الحالية بأخرى أطول منها. حتى الآن، هناك رفض تام لإعادة هيكلة الدين، من قبل المصارف تحديدًا، ومن قبل الفريق السياسي الذي يهيمن على البلاد. لكن بعد الإفلاس، سيصير القرار ملزمًا، خاصة وأن إمكان جذب الاستثمارات الخارجية بات معدومًا، ولن يكون رفع أسعار الفوائد مجديًا.

الخيار الأنسب، كان عدم عودة السُلطة الحالية لإعادة إنتاج نفسها، في حكومة بذات النهج، لا تجرؤ حتى على التفاوض مع حملة الدين السيادي، أو الحديث عن إعادة جدولته على قواعد تضمن تراجع قيمته، وتراجع الكلفة المترتبة عن خدمة هذا الدين. على العكس من ذلك، وعلى أبواب الدفعة الأولى هذا العام، فإن هناك حديث عن "مقايضة" السندات، بسندات لفترة أطول. يعني هذا الاستمرار، استبدال السندات الحالية بأخرى مع فوائد أعلى كلفة. بكلمات أخرى، الضحك على الناس. رغم ذلك، السوق لا يرحم أحدًا، لأن التعثر الانتقائي، كما تحسبها وكالات التصنيف الائتمانية، سيؤدي إلى خفض تصنيف لبنان إلى "تحت الأرض". والسندات بدأت تخسر قيمتها فعلًا.

اقرأ/ي أيضًا: "يسقط حكم المصرف".. عقدة رياض سلامة في منشار الاقتصاد اللبناني

غالبًا، سيدفع مصرف لبنان القيمة المتوجبة قريبًا في آذار/مارس من احتياطي العملات الأجنبية، في مصرف لبنان. وحسب التجربة، يحق الافتراض أنه لن يرّف له جفن عند الحديث عن نقص المستلزمات الطبية، أو عن استيراد الطحين لصناعة الخبز. وهذا الاحتياطي، غالبًا ليس فيه ما يكفي لاستيراد حاجات العيش الأساسية، إذ بات أقل بكثير من المعلن، حسب معظم التقديرات.

الخيار الأنسب، كان عدم عودة السُلطة الحالية لإعادة إنتاج نفسها، في حكومة بذات النهج، لا تجرؤ حتى على التفاوض مع حملة الدين السيادي، أو الحديث عن إعادة جدولته على قواعد تضمن تراجع قيمته

حسب هذه التقديرات، تراجع الرقم إلى 30 مليار دولار، لكن السيولة القابلة للاستخدام من هذا الرقم تتجاوز النصف بقليل. اقتصاديًا، سيحدث تضخم هائل، لكن هذا يحتاج إلى شرح طويل. في المحصلة، ينتظر اللبنانيون اعلان الإفلاس. وهذا ليس موقفًا أو شعارًا. ليس تحذيرًا حتى. رفض إلغاء جزء من الديون، تحديدًا الداخلية، والاقتصاص من الودائع الكبيرة (ما نجا من هذه الودائع التي هُرّبت إلى الخارج)، في عملية إعادة هيكلة شاملة، سيعني شيئًا واحدًا: الإفلاس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مصارف تحكم لبنان.. الجريمة دون عقاب!

صناديق الإعاشة للانتقام من الانتفاضة اللبنانية