11-يناير-2020

تتراوح كلفة الازدحام المرروي في لبنان بين مليار وملياري دولار (فيسبوك)

أنت الآن في بيروت. المساحة أضيّق من اسم المدينة. الشوارع متلاصقة، المباني على الطرقات. حتى الأوتوستراد الرئيسي الذي يقود إلى المطار، يزدحم في نفق "سليم سلام"، ويمكنك تناول "بيتزا" كاملة وأنت تنتظر الإشارة الخضراء قرب "برج الغزال".  وفي حال كان حظك جيدًا، قد تنتظر فقط نصف ساعة في نفق خلدة، الذي يصل العاصمة بالطريق الساحلي الذي يوصل إلى الجنوب. لكن الحظ لن يسعفك بأي شكل من الأشكال في منطقة "الدورة" وصعودًا باتجاه "نهر الكلب" وفي الطريق إلى جونيه. ستهدر ساعات من عمرك وأنت تزحف بعينيك بين السيارات. الزحمة في لبنان صارت مثل الكهرباء، مثل الوقوف بالطابور في المصرف، مثل انقطاع الماء، ومثل أشياء أخرى كثيرة. جزء من الثقافة الوطنية (يمكن هنا أن تتعاطف وتشعر بحزن عميق).

تتراوح كلفة زحمة السير في لبنان بين مليار وملياري دولار تقريبًا. وهذا طبعًا من دون احتساب كلفة أدوية الأعصاب، والعوارض الجانبية الإضافية، كالملل واليأس والشعور العادي بالفشل

17 تشرين الأول.. حين ازدحم فيه اللبنانيون ضدّ الزحمة أيضًا

لكن انتفاضة الحقوق ربما لم تكن دائمًا من أجل جميع الحقوق. بمحادثة بسيطة مع اللبنانيين، ستفهم أنهم يزدرون النقل العام، مثلما يزدري سائقو سيارات الأجرة والحافلات المتوسطة أصحاب السيارات. ورغم أنه لا توجد دراسة علمية واضحة عن علاقة اللبنانيين بسياراتهم، إلا أن أرقام هذه السيارات تدل إلى أن العلاقة "العاطفية" بين الطرفين مبالغ فيها. وإن كان تحديد الميل إلى الاستهلاك يحتاج إلى دراسات علمية، فإن غياب مشروع وطني حقيقي لتنظيم النقل العام، وإنشاء مرافق أكثر تطورًا كالقطار والمترو ومحطات للباصات، يبقى حاجة ملحة. لكن الأزمة أن الحاجة لا تبدو ملحة، ويبدو أن ثمة ما يشغل المتنقلين في سياراتهم.

اقرأ/ي أيضًا: إعادة اكتشاف وسط بيروت

تتراوح كلفة زحمة السير في لبنان بين مليار وملياري دولار تقريبًا. وهذا طبعًا من دون احتساب كلفة أدوية الأعصاب، والعوارض الجانبية الإضافية، كالملل واليأس والشعور العادي بالفشل. ذلك أن هذه العوارض لا تنتظر زحمة السير للنمو، فهناك الاحتلالات وهناك القمع وهناك عدة كاملة من المسببات الطويلة. ما يمكن تأكيده بلا هزل، أنه وحسب دراسة سابقة لجامعة هارفارد، فإن الكلفة المادية لزحمة السير ليست مباشرة، ولا يمكن النظر إليها كمبلغ محدد، لكنها الكلفة المتراكمة لكل ما يأتي:

  • التلوث البيئي الناتج عن استخدام المزيد من المحروقات
  • تراجع الإنتاج بسبب الهدر في الوقت وتقلص دورة الحركة التجارية
  • التشغيل والصيانة
  • الكلفة المباشرة للبنزين بسبب ارتفاع عدد الآليات
  • خسارة في دورة العمل بسبب إغلاق فرص تنشأ بوجود النقل العام
  • زيادة التكاليف الصحية بسبب التلوث
  • تقليص النشاط في القطاع السياحي (الدراسة أنجزت عندما كان هناك سياحة في لبنان)

هذا ليس كل شيء. هناك مليون و600 ألف سيارة مسجلة، من دون احتساب السيارات المخالفة. في أدنى الاحتمالات، هذا يعني ثلث الشعب اللبناني. ومع ذلك، يستغرب اللبنانيون أنفسهم من الزحمة، ويشتمون بلادهم، بدلًا من أن يشتموا أنفسهم. ولا يحبّون النقل العام، لأنه لا يتناسب مع الـ"برستيج". لكن للإنصاف، ومن ناحية صحافية، يتوجب الإشارة إلى أن هذه مجموعة انطباعات، استندت إلى محادثات مع الناس، ولم تستند إلى إحصاء سوسيولوجي حقيقي، يفسّر ميل اللبنانيين المتزايد لقيادة السيارات.

ما يمكن تأكيده بضمير "مرتاح" أنه لا يوجد قطارات، أو مترو أنفاق، أو حتى محطات للباصات. يوجد أشخاص يشتركون في النقل، بحيث تصير الحافلة مكانًا عامًا باشتراك عدة أفراد في مصلحة واحدة ضمن حيز واحد، لكن هذا النقل ليس عامًا، ولا يخضع لمعايير واضحة، بل هو مقسم طبقيًا ومناطقيًا، وبما أننا في لبنان، وبضمير مرتاح، يمكن أن نقول طائفيًا. زحمة السير ليست محصورة ببيروت وحدها، لكن بيروت لها الحصة الأكبر.

تقول الأغنية الشهيرة: "من أين أدخل في الوطن"

حسب الدراسة، التي تستند إلى "مجلس الانماء والاعمار"، يدخل بيروت - بوصفها المركز - في النهار ما يقارب نصف مليون سيارة. من هنا إذاً يدخل اللبنانيون في وطنهم. يدخلون في الزحمة.

  • 294 ألف سيارة من المدخل الشمالي
  • 126 ألف من المدخل الجنوبي
  • 95 ألف من المدخل الشرقي

في الزحمة أيضًا حديث كثير، عن "نوعية" الزحمة. بما أن السيارة صارت أقرب إلى تعبير عن الطبقة، والاكسسوار الذي يزيّنها يصير تعبيرًا أيضًا عن الانتماء السياسي، أو الديني في كثير من الأحيان. ستجد في لبنان الكثير من السيارات رباعية الدفع، أكثر من الحد الذي يمكنك افتراضه، في بلد لا توجد فيه صحراء، أو مسالك وعرة.

ستجد أيضًا الكثير من السيارات التي يختبئ راكبوها خلف زجاج عازل، مفترضين أن الحصول على هذه الميزة هو تعبير عن القوة، أي أن يفعلوا ما لا يمكن للآخرين أن يفعلوه. وغالبًا هذه "الحركات" موجودة في بلاد كثيرة، عربية وغير عربية. لكنها في لبنان تتخذ طابعًا قانونيًا. هناك "رخصة" للزجاج العازل، أو للتشبيح بالعامية اللبنانية.

اقرأ/ي أيضًا: بيروت الغاضبة برسم أبنائها

وهناك أدوات أكثر فتكًا. وأنت في الطريق، مسجون في الزحمة، يمكنك أن تتفرج على "معرض" السيارات والشخصيات. لوحات أرقام بأربعة أرقام بدلًا من ستة، وأحيانًا بثلاثة أرقام. أرقام مميزة. أحد أصحابها يقول إن أحدًا لن يوقف شخصًا يقود سيارة تحمل لافتة من أربعة أرقام فقط، بدلًا من ستة، لأنه سيفترض أن حامل اللوحة من أصحاب النفوذ. النفوذ عامل مهم. لكن ليس في الزحمة.

 في الزحمة الجميع سواسية. اللهم إلا إذا كان المار موكبًا لشخصية هامة، فتفتح الطرقات على عجل، وليمت الجالسون في سياراتهم غيظًا. ولعل أهم نتائج الانتفاضة الأخيرة، على سبيل المزاح، كان تخفيف زحمة السير. وعلى سبيل الجدّ: نهاية الخوف من المواكب التي تحدث الزحمة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بيروت مدينة من؟