28-أبريل-2022
لوحة لـ إنسليم

لوحة لـ إنسليم كييفر/ ألمانيا

يتعرّض الحزن لخيانةٍ جماعيّةٍ في زماننا. تتدرجُ من رغبة الناس بإنكاره، فالهرب الدائم منه، وصولًا إلى إعلانهم التبرؤ من كل ما يمتّ له بصلةٍ. بينما يتعالى هو على كل ذلك ويتصرّف مثلما يجب على الحكيم أن يفعل، يتركهم على ما هم فيه، إلى أن تنزل عليهم ألوان مختلفة من الشدائد، فيَؤُوبُونَ إليه فرادى أو جماعات.

لماذا يداخلنا ذلك الشعور اللامفهوم بالتنصل منه؟ لماذا نظل في حال من الهرب منه مع أن حياتنا برمتها قائمة عليه؟

يشهد زماننا حربًا مفتوحة على الحزن. تتجه الاهتمامات نحو تمجيد السعادة وتأثيمه. الرأي العام يرى السعادةَ العاطفةَ الأسمى، وأن الحزن هو نقيضها الذي يجب تجنبه تمامًا

لا يوجد من يعبّر عن هويتنا ومعنانا كبشر مثله. لا يوجد من رافقنا في رحلتنا العظيمة منذ عصور البدائية وحتى زمن التكنولوجيا رفقةً مخلصةً كما فعل. لا يوجد من ثقّفنا عقولًا وأرواحًا وأبدانًا كما ثقّفنا البكاء والارتعاش والتأثّر والشوق.

لا شك أن عاطفتنا مكونة من مشاعر متنوعة، منها المؤقّت ومنها الدائم، سوى أن الحزن أعمقها وأعظمها. لا نعلم متى وكيف ابتدأ. لا نعرف له أعماقًا أو حدودًا أو أبعادًا. لعله موجود قبلنا. ربما سبقنا إلى الوجود ولذا حين وصلنا وجدناه جاهزًا وما علينا غير استلامه.

لا يمكننا القفز على حقيقة دوره في تطوّرنا. ومع ذلك نعيش الحياة ونحن نبحث عن وهمٍّ يسمى السعادة، مؤمنين كل الإيمان أنها الغاية الكبرى، وربما لو كنا سعداء بالأصل لما طابت لنا مغادرة مرحلة الجمع والالتقاط!

يشهد زماننا حربًا مفتوحة على الحزن. تتجه الاهتمامات نحو تمجيد السعادة وتأثيمه. الرأي العام يرى السعادةَ العاطفةَ الأسمى، وأن الحزن هو نقيضها الذي يجب تجنبه تمامًا. ومن الأشياء التي يقوم عليها هذا المسعى تأكيده على أننا سنكون سعداء بمقدار ما نتحلى بالتفكير الإيجابي، ونبتعد عن التفكير السلبي، أي الحزن.

لا شك أن هناك الكثير من الناس الفرحين، غير أننا لا نمتلك سبيلًا إلى معرفة كيف أصبحوا كذلك. أتراه الرضا؟ أم أنها البساطة في العيش والعلاقات والسلوك؟ أم أنهم غافلون عن أنفسهم وعما حولهم، وبسبب تلك الغفلة ظنوا أنهم في سعة من السعادة؟

عندما نقارن بين السعادة والحزن نجد الأولى عابرة بينما الثاني مقيم. كل ما يربطنا بالعالم مرتبط بالحزن؛ الشوق إلى الغائبين من لدنه، والشغف بفعل الأشياء الحميمة من لدنه، والخوف من المجهول من لدنه. أما الفرح فلا نعرف عنه أكثر من كونه زائرًا خفيفًا، كالريح يأتي من مكمن سريّ، وكالريح ويمضي إليه، وفي عبوره السريع يلقي علينا بعضًا من الإنعاش، وهذا بالتحديد ما يجعل من الفرح أقرب إلى موظّف عند الحزن، يرسله بين فترة وأخرى ليساعدنا على الاحتمال والثبات.

ما السعادة التي يسعى إليها الناس في يومنا هذا؟ اللقاءات والمجالس؟ الأسفار والتعرّف على العالم؟ هذه كلها أشياء قديمة فعلها البشر ويفعلونها وها هم كما بدأوا تعساء.

أنذهب نحو الاتجاه السائد ونسأل: هل الحصول على سيارة جديدة، أو موبايل، هو الباعث على التفكير الإيجابي؟ ألا يعني هذا جعل السعادة أقرب إلى أيديولوجيا نفسية في عرف النظام الرأسمالي؟ ألا يعني أيضًا أن تأجيج التهاب أيديولوجيا السعادة يهدف إلى منع الناس من أن يجدوها في شيء آخر، ليظلوا مقبلين على هوايتهم العبثية في إفراغ رفوف المتاجر؟

*

قلتُ له: "ما الأفكار والممارسات، الشخصية والاجتماعية على السواء، التي يُمكنها أن تجعلنا أكثر فهمًا لمعنى الحزن؟".

فقال: "كل شيء.. كل شيء..".

*

الأدب حزين. من بوسعه تذكر أكثر رواية يحبها ولا يشعر برغبة في البكاء؟ كيف تمر على رؤوسنا لمحة من رواية "دون كيخوته" ولا تنبض قلوبنا تلك النبضات التي ترتجف معها الضلوع؟ الدين حزين. أنبياؤه من أكثر الناس حزنًا، ولهذا تمضي سيرهم الملأى بالفجائع نحو صناعة مرويات تتحول إلى حكايات مقدسة، ثم تنبثق منها شرائع وشعائر. الفلسفة متشكلة منه، وكل من ساهموا في صناعة الأفكار، وفي توليدها، هم أناس حزانى.

*

في واحدة من الجمل المؤلمة في ذاكرة قصيدة النثر العربية قال بسام حجار: "لم يقل لي أحد ما معنى الأسى". جملة كتبها في مجموعته الأخيرة "تفسير الرخام" مع أننا، نحن قرّاءه، نعرف جيدًا أية علاقة مُؤسَّسة على الأسى تلك التي أقامها مع الحياة والكتابة معًا.

الأدب حزين. من بوسعه تذكر أكثر رواية يحبها ولا يشعر برغبة في البكاء؟ كيف تمر على رؤوسنا لمحة من رواية "دون كيخوته" ولا تنبض قلوبنا تلك النبضات التي ترتجف معها الضلوع؟

كلما قرأنا الجملة اعتبرناها صادرةً عن براءة داخلية، جديدة وقديمة. إنها براءة البدايات تخرج من النهايات، لتقول ما معناه لو  أن أحدًا قال للشاعر ما الأسى، وما معناه، وما مضمونه، لجاء شاعرنا إلى الحياة راضيًا بأنه يعرفها، ويعرف ما ينتظره من أهوال، ولأن ذلك لم يحدث ها هو ذا يتفاجأ بسيناريو الحياة المؤلم. ولأن سيناريو حدوث ما لم يحدث هو نفسه لم يحدث، سنظل نظلم الحياة في إحالتها على احتمالات لا تحتملها الاحتمالات.

"لم يقل لي أحد ما معنى الأسى" لأنّ كل من نراهم، أمامنا وخلفنا، خانوه.

*

الحزن يُفكّر.

الحزن يُحرّض.

الحزن يُقَوِّم ويُصلح.

الحزن مؤثّر. نرى أو نسمعُ فتدمع عيوننا ولا تضحك أفواهنا!

الحزن يقرّب ويجمع.

الحزن مدرسة التعاطف.

الحزن حسّاس.

*

ربما ينتمي رفض الحزن إلى رفض الموت. فمقابل منطق فصل الموت عن الحياة، والتعامل معه على أنه اعتداء عليها، يجري تعامل مع الحزن على أنه دخيل على الحياة الطبيعية، بدلًا من النظر إليه بوصفه جزءًا أصيلًا منها.

حين نفهم أن الرفض قادم من تصوّر يراه شعورًا لا جدوى منه، لا طائل وراءه، سوف نفهم لماذا لا يريده أحد. يقولون: يُتعبنا الحزن دون أن يستطيع تقديم شيء مفيد. وياله من رأي فادح! لولا حزننا لما توهجنا، لما كنّا حارّين، ولولا هذه الحرارة لما شعرنا بآلام غيرنا.

ما أشبههم، هؤلاء الذين يريدون حياةً خلوًا من الحزن، بالسعداء حتى حدود البلاهة في حفلة تكنو (Techno)، إذ يرقصون تحت تأثير المخدرات والموسيقى، دون أن يشعر أحد بأحد، دون أن يبالي أيٌّ بسواه.

ثمة ما يشبه الجنة في هذا التفكير. ففي المسيحية والإسلام، سوف ينسى الذين يدخلون الفراديس من ارتبطوا بهم في الحياة السابقة. ما يجعل السعادة وعدًا بالأنانية بمقدار ما يجعلها بلا ذاكرة.