15-مارس-2022
زبيغنيو ماكوفسكي

لوحة لـ زبيغنيو ماكوفسكي/ بولندا

انتباني شعورٌ غريبٌ يوم أمس، شعورٌ وحدي أنا من تَألَفُه، يعتريني في مواقفٍ شتّى لا تربط بينها سوى مقدرتها الفريدة على العصف بوجداني، ودفعي لمساءلة نفسي فيما لو كنت أُنصت لها وأُعير ما يختَلِجُها اهتمامًا كافيًا، أم أنني أُنقّب في مُختلجاتها عمّا يليق باعتقادي وأُبرزه، مُصوّرةً إياه كُلّي.

كان ذلك بعد ليلةٍ لاحت بخاطري فيها قصيدة، ولست من روّاد الشعر ولا حتى هُواته، بِيَد أن إعجابي بالشعراء مُنقطع النظير في معترك الأدب، أُقدّر براعة الصادقين منهم كما الكاذبين على إيصال أكثر الأفكار غزارةً دون الوقوع في الإسهاب الممل، الذي أقع فيه أحيانًا عند استفاضتي في تصوير واقعة، أو تناول قضيةٍ ياه كَم يَعنيني أمرُها.

بالنسبة لعالمنا، إن ممارسة الوحشية على من هم "وحشيّون في الأصل" لا تستدعي التوقف عندها، ولا وَقفها

 

وقعت عيني البارحة على حاجّةٍ سوريّة، يجالسها مُصوّرٍ ليأخذ انطباعها عمّا يدور في أوكرانيا في بثّ حيّ، فأجابت بمعنى معناه -وبتعاطف واهتمام شَحيحَين- أن العالم الذي يتبجّح اليوم بالخطر الروسي، هو ذاته الذي وقف متفرجًا على إذاقة السوريين أصناف الموت كلها، وبثلاث مئة نوع من الأسلحة الروسية أو يزيد، مُعتبرًا ممارسة الوحشية على من هم "وحشيّون في الأصل" لا تستدعي التوقف عندها، ولا وَقفها.

شريط الرعب الذي أهدته روسيا لهذه العجوز، التي يجوز القول إن أبسط حقوقها في هذا العمر أن ترتشف قهوتها تلك محاطةً بزوجها وبنينها وأحفادها، في بيتٍ عامر يجاور بيوت أحبابها، ويتوسّط حديقةً غنّاء بأشجارٍ غرستها في ريعان الشباب، مزّق قلبي، إذ أعلم جيّدًا أن التحديق في الفنجان ما هو إلا آليةٌ لكبح سَيل المُقَل، وأن شُحّ الاكتراث الظاهري ذاك ستارٌ أُسدِلَ على عويلٍ طويل، وأنينٍ مَرير، ونحيبٍ إذا سُمع فَطَر الأفئدة.

لستُ أدري كم فقدتِ من فلذات أكبادِك يا جدّة، ولا ما قاسَيتيه لتَأنَفي العَتَبَ وتَغدو عزاءات الكَون كلّها أوضعَ من أن تُبلسِم من جراحِك أَنمَلة، بِيَد أن ذاكرتي على انتقائيّتها، باتت تستحضرُ -أكثر من أيّ وقتٍ مضى- قصائد الغلائل المُلتاعة بالظلم والعجز معًا، قصائدٌ حيكَت لصاحب ثأر مقيّد في سقف، يرمق جسده المُسربل بالدماء جلاده الجَذِل، التائق لرأيته يتوسّل الصفح النذل، وهو برباطة جأشِ الذي لم يعد لديه ما يخسره يقول كلّا، لن تنتزع مني أكثر مما انتزعت إلا جسدي المُسجّى.

وددت لو أن تلك القصائد قيلت في هجاء ظُلّام العجوز وانتصارًا لها، بل وددت لو أنه من الأخلاقي تعديلها لتكون، غير أن ذلك غير وارد، فالتقطت قلمي وقصاصة ورق، وهَمَمتُ أكتب، نسجتُ عددًا من الأبيات ثم بصعوبةٍ ألحقتُها بمَزيد، لكنني لم ألبَث أن أدركت عدم دخولي بَعد في الصَّدَد، وعدم تعدّي ما بيدي كونه إثباتًا بسيطًا على أن بوسعي استلال القوافي على النمط العامودي.

التقطت هاتفي وصُعقت بأن الصباح قد حل، أرسلتُ الأبيات لصديق ضليع جدًا في الأدب، لثقتي بأنه سيأخذ محاولتي البسيطة على محملٍ أكثر جدّية، ويُطلعني على مكامن القصور وسُبل توسيع الأفق…

طلب مني كما توقعت أن أقصده لنناقش الأبيات وجهًا لوجه، وهذا ما كان، طلبتُ سيارة أجرة وتوجّهت إليه لأجده بانتظاري، مشينا سويةً لأجزاء من الدقيقة ثم دخلنا مكتبه الزاخر بما يخطر ولا يخطر على البال من كتب، في الشعر والسياسة والأدب، ثم جلسنا متقابلين:

- من تُحبين من الشعراء؟

- أحب الشاعر فلان ابن الشاعر فلان، ما رأيك به؟

- مريعٌ للغاية، بخلاف والده.

- ماذا؟ قل إنك تمزح!

- بل أنا جادٌ جدًا، أرى في أبياته أشباح شعراءٍ آخرين، وفي مواقفه مناصبًا يتبوّؤها آخرون، كما أنه يُعوّل على الزخرفات أكثر من المادّة الخام، وهي الموضوع.

قلّبت قصائده في رأسي مجددًا، وأمعنت في ذلك حتى لمست ما لمسه هو وتسلَّقَت الدَّهشة المُحيّا، بينما كان هو مستغرقًا في المفاضلة بين شعرائنا العرب المعاصرين وتقسيمهم إلى أصناف، صنف يعبّر عن رأيه بصدق في قضايا هناك طائل من إثارتها، وآخر يعبّر بالصدق ذاته لكنه ينفخ في قِربة مقطوعة، وصنفٌ "يجعّر" لكنه واقعي، وآخر يجعّر طافيًا على شِبر ماء، ولم يكن اصطفاف الشاعر معيار صديقي في تقييمه، بل كان صدقه مع نفسه، واجتهاده في اكتشاف مَواطِن تَفَرُّدها، بالإضافة إلى النضج والابتعاد عن المغالاة حتى أثناء الصراخ.

- دعكَ منّي، من تفضّل أنت من الشعراء؟

- أحب الشاعر فلان، وتستهويني قصائد فلان

- لم أقرأ لهم من قبل، شعرهم عمودي أم حر؟

- شعرهم حر، أتحبين العمودي؟

- أحبه للغاية، نعم أحب درويش ودنقل ومطر، لكنني أؤمن أن الحر ما هو إلا هُروبٌ من العامودي وعجزٌ عن مجاراته.

- بمن يذكّرك العمودي؟

- بعنترة بن شداد، مثلًا.

- آه، نتحدث عن الشعر الجاهلي إذًا، كتبت عن تأثير هذه الحقبة على العربي المعاصر في كتابي الإنجليزي الأخير، هل قرأته؟

- بالطبع، والجدير بالذكر أنني متبنّية سلفًا لكثيرٍ مما ورد فيه، لا سيما عن "مكارم الأخلاق".

- لماذا تستهويكِ قصائد تلك الحقبة؟

- تختلط عليّ الأسباب، لكن أهمّها هو انسجامي مع تعريفات تلك الفترة للحب، أكثر من التعريفات التي انبثقت عن غرقنا في الفردانية والاستهلاكية.

- يُبهجني أن تدافع فتاة في عمرك عن الكلاسيكيات، لكن ما قلته عن الشعر الحر غير منصف بعض الشيء، ما رأيك أن أُعطيك مجموعاتٍ شعرية للشاعر هذا وذاك، وغيره كُثر بعد أن تُنهيها، ثم أن نُجري هذا النقاش مجددًا؟

-  بكل سرور وانفتاح.

فَنَهَضَ مُبتسمًا وأخذ يبحث في تلك الرفوف عن أسماء يعتقد أن بمقدور أعمالها أن تنتزع مني موقفًا مُمجّدًا للشعر الحر بما لا يقل عن العمودي.. لم يجد أيًّا منها لسوء الحظ، لكنه وجد ما رأى فيه بديلًا ممتازًا، وطلب مني إلقاء نظرةٍ عليه بينما يرسل لي هو ملفًا من مئة صفحة، فيه مسرحية أحمد شوقي الشعرية "ليلى والمجنون"، تصفّحت ما أعطاني حتى قاطعني ليُلقي مُختاراته الجميلة من المسرحية، إلقاءً رقيقًا وانسيابيًا سافر بي لغرفة عشيقين في مصر، تعيسان للغاية، ومتيّمان للغاية، وصادقان للغاية، لا جدران حياء وكبرياء تَحُول بينهم وبين ما يريدان قوله، ولا مكابرات تحت مسميات كالرجولة والأنوثة في التعبير عن الهواجس والمُغرَيات.

استمعنا لقصيدة أسير فلسطيني يدعى وليد، تحكي عن مقاومة الاعتياد على القسوة بعد التعرض لكثيرٍ منها، وعمّا يفتقده في أقبية السجون

 

عبّرت عن إعجابي الشديد، وألقيتُ بدوري أجزاءً من المسرحية ذاتها، ثم تناقشنا في موضوعاتٍ أدبية أخرى، واستمعنا لقصيدة أسير فلسطيني يدعى وليد، تحكي عن مقاومة الاعتياد على القسوة بعد التعرض لكثيرٍ منها، وعمّا يفتقده هو في أقبية السجون، كأن يسأله أحد المارّة عمّا إذا كان معه نقود معدنية، أو أن يُعايد الأطفال في العيد، أو أن يقع في حب إحداهن، أو حتى أن يبني علاقة إنسانية من أي نوع، كما أطلعته وأطلعني على مقالات نشرناها بالفترة الأخيرة، ثم تطرّقنا "أخيرًا" لأبيات ليلة البارحة.

- تعلمين أنني أرى فيك شيئًا مميزًا، وتعلمين أنني لست إنسانًا يُجامل.

- أعلم تمام العلم.

- هذا ليس شِعرًا، هذا إبداء رغبة بكتابة الشعر.

- دعنا نسميها محاولة بائسة إذًا.

- ليست بائسة على الإطلاق، لا تقولي هذا، ولا تعتقديه.

- إذًا لماذا ليس شعرًا؟

- لأنني بحثت فيه عنك أو عن أي شيء منك ولم أجد، أول خطوة هي إيجاد نفسك ومصارحتها، أنا واثقٌ للغاية من أنك ستجدين فيها ما يجعل القارئ قادرًا على معرفة أن ما قرأه لك دون أن تكتبي اسمك.

-  سأنتهي مما زوّدتني به اليوم وغدًا، وسآتيك طالبةً المزيد، ما رأيك بقليلٍ من الموسيقى؟

- رائع.

قيثارة كلاسيكية في الخلفية، وصوت لبناني شجيّ يقف بلسانٍ عامّيّ على أطلال حبيبةٍ تجاوزته، شاكيًا حزنه وشوقه وأشياء أخرى لم تعد كافية لرأب الصّدعِ بينهما، غنّيت بعض الأبيات بكثيرٍ من الانسجام، ثم نظرت إلى صديقي لأجده يرمقني ويضحك ضحكة هدّاف أحرز نصرًا في الدقيقة التسعين!

- شو؟

- ولا حاجة!

- لا عن جَد، شو؟

- بجد ولا حاجة

- لحظة، هاي أغنيتي المفضلة، وهذا شعر حر!

(محاولتي لتمالُك الضحك على نفسي تبوء بالفشل)

- شفتي إزاي؟