17-أبريل-2022
فيليب ميرسييه

لوحة لـ فيليب ميرسييه/ فرنسا

أنظر إلى أصابع المرأة الأوكرانية المقتولة على شاشة CNN وأحدس أن يدها المنتفخة تدل على بقاء جثتها في العراء لمدة طويلة. الأظافر المطلية بطلاء من ألوان مختلفة والمعتنى بها جيدًا لا تنجح في أن تبعد رائحة الجثة المتفسخة عن رأسي. ما الذي يمنع عيني من أن تستقل عن الحواس الأخرى؟ أجزم أن ما يمنع عيني عن أن تكون محايدة، هي ذاكرة الروائح. وأنا أنظر إلى أصابعها أستطيع أن أشم رائحة اللحم المتفسخ. هي ليست رائحة مقيتة في حد ذاتها إلا لأنها تنبعث من الجثث التي تُركت في العراء. نحن في حقيقة الأمر نتذكر الموت أو نقترب منه من خلال أنوفنا. الأنوف هي التي تجعل هذا العالم مفزعًا وقابلًا للانفجار.

نحرص على الاعتناء بمظهرنا على نحو يجعل الآخرين يحدسون من النظرة الأولى أن روائحنا محايدة وأن جثثنا لا تعيش بمعزل عنا. فلا نثير في الآخرين النفور والخوف

الموت شأن صعب ومتوتر. لا ننجح مطلقًا في التعايش معه، لأنه نقيض حواسنا. لكنه على الأرجح نقيض الأنف أولًا. ذلك أن الموت في خلاصته الحاسمة ليس أقل من تفريق. الموتى، ولأنهم دائمًا يفيضون بروائحهم، يُعزلون فرادى في أماكن بعيدة عن العين. نحن لا نخشى النظر إليهم، نحن نخشى أن نشم روائحهم. ذلك أننا نخال أن قدرة الجثة على إنتاج رائحتها بعد موت المرء هي في حقيقتها انفصال نهائي عنه وعن ذكراه لتباشر حياتها الخاصة بعيدًا عن صاحبها. على وجه من الوجوه تشبه الروائح المنبعثة من الجثث حياة لها بعد موت صاحبها.

لهذا نحرص على الاعتناء بمظهرنا على نحو يجعل الآخرين يحدسون من النظرة الأولى أن روائحنا محايدة وأن جثثنا لا تعيش بمعزل عنا. فلا نثير في الآخرين النفور والخوف. وما أن نتيقن حتى نستطيع الاقتراب منهم، والتواصل معهم، لكننا سنتردد إذا أردنا أن نقيم اتصالًا حميما بهم، فالاتصال الحميم يكشف الروائح من منبتها. لهذا نجهد قبل أي اتصال حميم، في طرد روائحنا، فيتقبلنا الآخر ونتقبله على نحو محايد ومسالم. الأنف هو صانع وحدتنا.

الحيوانات المفترسة والقمّامة منها على وجه الخصوص، تهتدي بالروائح. هذا يعني أن انبعاث الرائحة من جسم متعرق، أو حتى من جثة متفسخة يثير الشهية. لكن البشر لا يأكلون بعضهم بعضًا على هذا النحو. هناك طرق كثيرة للافتراس يجيدها البشر، وليست الطريقة الحيوانية واحدة منها. نحن قساة وقسوتنا أبلغ كثيرًا من قسوة الحيونات المفترسة. لكننا مع ذلك نخشى الروائح. نهرب منها إلى عزلاتنا. ويدفعنا الخوف من انبعاثها لبذل مجهودات كثيرة لإخفائها. الكائن البشري قد يكون الكائن الحي الوحيد الذي لا يطيق جسمه. يكره روائحه، ويأنف من إفرازاته، ويبدي قرفًا كبيرًا من أي اتصال مستدام مع آخر. دائمًا يغسل رائحته ورائحة الآخر عن جلده ويطردهما بانتظام ممل. وعلى المرء إذا كان يريد الاتصال بآخر أن يعتني بزوال روائحه، وأن يموهها بروائح صناعية أخرى، لا تمت في الحقيقة إلى جسمه بصلة، لكن صفتها الأهم أنها روائح ميتة، لا تتفاعل مع الجسم لتنشئ حياتها الخاصة.  

الأنف هو طاغية الحواس. يفرض مشيئته على كل شيء. نحن نحادث الآخرين مستخدمين نغمة صوت توحي أننا طردنا روائحنا من جسمنا، ونتذوق الأطعمة بأدوات لئلا تعلق روائحها على جلود أصابعنا، خصوصًا حين نكون محاطين بآخرين. والأدهى من هذا كله، أن الماء الذي هو وسيلتنا لطرد روائحنا عن جلودنا بات المشروب الوحيد الموصى به طبيًا وجماليًا، لكي نتخلص من روائح بواطننا وأحشائنا.

الأنف الذي نحمله في وجوهنا هو وسيلتنا لتجنب الآخرين. ولأنه أكثر حواسنا سطوة وبطشًا، يجبرنا دائمًا على نشدان العزلة وتطلبها. ولا نخرج من عزلاتنا حقًا إلا حين تغلبنا الحاجة التي تمليها الحواس الأخرى

إنما مع ذلك نحن نتزوج وننجب، ونقيم اتصالات جسدية مع آخرين. لكننا ورغم كل هذا الاختلاط الذي يميزنا عن معظم الكائنات الحية، نحرص أن نجعل مضاجعنا ومجالسنا وثيابنا وملاءاتنا تفوح بروائح لا تمت لحقيقة أجسامنا بصلة. نحن كائنات تجهد في ألا تترك أثرًا. نقصي روائحنا ونتمنطق بروائح عامة، كلنا نستخدم الياسمين أو الكافور وكلنا نستسيغ هذا الروائح الرائجة. لأنها، محايدة وشائعة أولًا، ولأنها ثانيًا توحي بأن جلودنا لا تمت بصلة إلى عالم اللحم والدم. نحن الكائنات التي تميت أجسادها منذ نعومة أظافرها. وتغلفها بجلودنا التي نحرص ألا نفعُّل مساماتها أمام الآخرين أو بجوارهم لئلا تفضحنا روائحنا وتطردنا من كل اجتماع.

الأنف الذي نحمله في وجوهنا هو وسيلتنا لتجنب الآخرين. ولأنه أكثر حواسنا سطوة وبطشًا، يجبرنا دائمًا على نشدان العزلة وتطلبها. ولا نخرج من عزلاتنا حقًا إلا حين تغلبنا الحاجة التي تمليها الحواس الأخرى، كأن نجوع أو نثار أو نتعب، في هذه اللحظة بالذات نجتهد في طرد روائحنا لئلا تعطل علينا أنوفنا أوقات المتعة القصيرة التي نسترقها بين عزلتين.