01-يونيو-2023
كاريكاتير لـ فيكتور بوغوراد/ روسيا

كاريكاتير لـ فيكتور بوغوراد/ روسيا

حيثما ولّينا وجوهنا نراهم يمارسون ألاعيبهم التي يحترفونها، وأينما ذهبنا نجدهم حاضرين لأخذ ما يعتبرونه حصّةً مقسومةً من كل فعالية ثقافية أو فنية. كيف لا يحدث ذلك وهم من رفعوا الحضور الشخصي إلى مستوى أكبر من النتاج، وأعطوا المصالح الذاتية مرتبةً تعادل القيم العليا؟

لم يأت هذا النموذج من فراغ، بل كان موجودًا دائمًا، لكنّ شيوع المنصات أعطاه الفرصة الكبرى كي يتقدم ويتكاثر، حتى مرّت سنوات قليلة واستحوذ على كل شيء، دون أن يترك لغيره مكانًا أو مكانةً.

اعتاد ممثلو هذا النموذج الثقافيّ على الدفاع عن أنفسهم بأشكال ثابتة، منها أن الانتشار الذي يحظون به استحقاق جاء نتيجة لجهود عريضة في خدمة الثقافة والفن، مع أن مراجعة بسيطة تفنّد هذه الادعاءات، فما فعلوه، وما يفعلونه، مجرد ذاتيات تتخذ شكل نصوص أو لوحات أو مقالات، يتحدثون فيها عن نمط معين من الحياة، هو حياتهم الخاصة، دون أية عناية بالتصورات الأخرى لطرق العيش. وفوق ذلك لا يُعرف عن أيٍّ منهم انشغال بمعنى أو رؤية، كي يقدم من خلاله فهمًا جديدًا للذات والذاتية، ولا يُعرف عنهم تقديم جهد تقني على مستوى الأسلوب، فهم يرسمون اللوحة، أو يكتبون القصيدة، التي لا تستحق أن تحمل توقيعًا، لأنها تنتمي للسياق السائد، ولا تستحق الانتساب إلى ظرف وسياق منتجها. فأي جهود وخدمات هي تلك؟

حين يحضر البهلوانات تحضر معهم ملاعيبهم الفارغة، وسواء نشروا نصوصًا أو أقاموا مهرجانًا أو افتتحوا حسابات شوسيالميديّة فإنهم يفعلون ذلك لأجل أنفسهم فقط، لأنهم غير مهتمين بفتح جدال ثقافي، أو خوض معارك فكرية

لسنا في سياق التأسيس لحالة منع، بل نقف عند حدود الفهم للدور المدمر الذي باتت تلعبه هذه التجارب، وهي تؤكد السطحيّ وترسخه، وتعيد تدوير الأفكار المتفق عليها، فما المرتجي من فن أو أدب لا يحمل فهمه الخاص للوضع الراهن للبشر؟ وما جدوى العمل في المناطق الآمنة فكريًّا وأسلوبيًّا؟ وكيف يمكننا التقييم دون وضع الممارسات غير النزيهة في إطار الفساد الثقافي أيضًا؟

حين يحضر البهلوانات تحضر معهم ملاعيبهم الفارغة، وسواء نشروا نصوصًا أو أقاموا مهرجانًا أو افتتحوا حسابات شوسيالميديّة فإنهم يفعلون ذلك لأجل أنفسهم فقط، لأنهم غير مهتمين بفتح جدال ثقافي، أو خوض معارك فكرية، إنما ينصب تركيزهم بالكامل على أن يكون مشهورين وحسب، وكلٌّ منهم بشخصه ونمط حياته، لإيمانهم العميق أنّ الثقافة شأن شخصي لا يحتاج سوى أناس مثلهم كي يجعلوه عامًا، وذلك دون نظر إلى خصوصية المنتج الفني بوصفه سعيًّا لفتح حوار، وحاملًا لقيم تنويرية، ومخيلةً تضيف إلى الواقع؛ يعاملونه معاملة الإعلان التجاري، وبدلًا من أن نشاهد معجونًا يجعل الأسنان لامعة كسيراميك حمّامات المنازل، نشاهدهم مع كتبهم أو لوحتهم أو أفلامهم، على اعتبار أنهم وحدة لا تقبل انفصالًا.

بوسع الفرد منهم الكتابة يوميًّا على الصفحات التي يديرها كلامًا كثيرًا عن معنى الكتابة في حياته الخاصة، وكأنّ ذلك كافٍ لجعل ما يكتبه ضروريًّا للآخرين، دون أن يُميز بأن حالته ككاتب مع عالمه لا تتطابق بالضرورة مع دور النصوص في الحياة، لأنّ ما يمنح النصوص قوتها ليس الطريقة التي كُتبت بها، ولا لماذا كتبت، بل ما هي، وما الذي تقوله، وما حجم مساهمتها في إغلاق قديم وفتح جديد، في التفكير والأسلوب.

يخلطون الأوراق حين يروجون لأنفسهم بطريقة تعفي المساءلة، وهو أمر بات عاديًّا للغاية في زماننا، فمن يسأل عن سبب وجود فيلم عن الدراجات النارية؟ ومن يبحث في أسباب اقتحام الإعلانات الممولة لصفحاتنا؟ ومن يتوقف عند صورة شعرية مكررة في ألف قصيدة؟

تساوت الأشياء في وقتنا. تساوت القيم. المحافظون مثل المنفتحين. الموسيقى كلها موسيقى، من موزار حتى مطربي الملاهي الليلية. دوستويفسكي يقيم في الدرجة نفسها مع غيوم ميسو. وهؤلاء البهلوانات أيضًا لا يختلفون عن كل ما هو موجود، فإما أن نتابع راضين أو أن نقلب إلى صفحة أخرى، لأنّ الانتقال (أعلى أو أسفل) خلال التصفح هو التقنية الوحيدة المتاحة للنقد، كما يقول صنّاع التكنولوجيا، مع أن الخوارزميات هي التي تحدّد كل شيء، ولأننا محكومون بما نحب فنحن أيضًا محكومون بما نكره، ولهذا سنظل واقعين في هذه الدائرة المغلقة.

هؤلاء لم يأتوا من فراغ، كما قلنا، ولا ظهروا صدفة، بل هم ثمرات لنظام ثقافي راسخ له سمتان بارزتان، الأولى هي التشابك مع المجال التجاري، والثانية هي أن تأثير رأسمال المال عليه أكبر من تأثير صنّاع ومنتجي الثقافة.

سنظل، في زمن تيك توك والذكاء الاصطناعي، نبحث عن كل ما يُغني تطورنا الفكري وصفائنا النفسي، دون أن نستسلم، على مفترق الطرق الذي تضعنا فيه التكنولوجيا الحديثة

وعلى الرغم من أن العلاقة بين الثقافة والتجارة قديمة، إلا أن العولمة والتواصل الرقمي كثّفا التقاطع بينهما، وهيّئا المناخ لانتشار الرداءة والمثقف البائس بشكل يبدوان فيه طبيعيين للغاية، لأنّ عالمنا القائم على التكنولوجيا أضفى على الثقافة ككلٍّ طابعًا ديمقراطيًّا شديد الأهمية، من عوارضه الجانبية أنه سمح بدخول أي شخص ليفعل ما يشاء، الأمر الذي أغرقنا في كثرةٍ يصعب معها تمييز الجودة والموهبة، ومع تلك الصعوبة في الفرز انتشر هذا العبث الذي لم يعد ممكنًا أن نتصدى لها بإمكانات ذاتية، منذ بات ظاهرة توازي الشعبوية السياسية، يتلاعب شعراؤها وروائيوها وسينمائيوها ورساموها بالتفسيرات مثلما يتلاعب العنصريون والمتطرفون القوميون بالروايات والحقائق والمخاوف.

والواضح طبعًا أن هذه الأعمال التي تحظى بشعبية هي أعمالها لها علاقة بالتحيزات القائمة أساسًا في الواقع، ما يجعل هؤلاء الفنانين يفتقرون إلى الأصالة والنزاهة، فعلى سبيل المثال، تحقّق المسلسلات التلفزيونية "الشامية" حضورًا هائلًا مستفيدة من التحيز الاجتماعي القائم في الواقع على شكل معاداة للمرأة، وبهذا يغدو السؤال: ما الحضور الذي كانت ستحققه لولا استفادتها من هذا الخلل الأخلاقي؟

سنظل، في زمن تيك توك والذكاء الاصطناعي، نبحث عن كل ما يُغني تطورنا الفكري وصفائنا النفسي، دون أن نستسلم، على مفترق الطرق الذي تضعنا فيه التكنولوجيا الحديثة، لا للسطحية التي تريد إضعاف سعينا وراء فهم أعمق، ولا للتفاهة التي تريد إرغامنا على التقاعس، ومن ثم الصمت، عن فضح الأدوار الرخيصة التي تلعبها طفيليات الثقافة والفن.

بهذه اليقظة يمكننا عبور ممرات المتاهة الرقمية، دون أن نفقد وعينا وضميرنا وذاكرتنا، ودون أن نكون شهود زور في الفرجة على العروض البهلوانية الرديئة.