11-أبريل-2022
عمل فني لـ باري ماكجي/ أمريكا

عمل فني لـ باري ماكجي/ أمريكا

يأخذ المتابع للشأن الثقافي على بعض المشتغلين به، سواء كانوا كتّابا أو إعلاميين أو فنانين، بعض الممارسات الشخصية التي لا تمت إلى طبيعة العمل الثقافي بصلة، كأن يلجأ أحدهم لتسويق منتجه الثقافي كما لوكان في معرض لتسويق إحدى منتجات تجميل البشرة. فما أن يحصل على موافقة الناشر أو يعده خيرًا، حتى يبادر إلى نشر إعلان يبلّغ به أصدقائه الفيسبوكيين بتقبله لتبريكاتهم فيما يخص ولادة عمله المرتقب، وما إن تراه قد اشتم خبرًا عن اقتراب موعد عرض الأغلفة المقترحة حتى يبادر إلى دفعها لجمهوره ليشاركوه غبطة اختيار واحد منها، وهكذا إلى ما لانهاية من اللحظات الساحرة، حتى اللحظة الحدث التي يتم تحويل نبضات كتابه الإلكتروني إلى كائن من حبر وورق.

يأخذ المتابع للشأن الثقافي على بعض المشتغلين به، سواء كانوا كتّابا أو إعلاميين أو فنانين، بعض الممارسات الشخصية التي لا تمت إلى طبيعة العمل الثقافي بصلة

وإذا كان للمرء أن يتفهم حق كل صاحب منجز ثقافي بالاحتفاء بمنجزه بالطريقة التي يراها مناسبة ، بل وحقه المصان في الترويج له بوصفه منتجًا قابلًا للتداول شأنه في ذلك شأن أي منتج مادي، إلا أن ما يأخذه على أصحاب تلك المنجزات  فرحهم العامر بترشحها لنيل جوائز مالية مجزية ممولة من قبل دولة تقوم عقيدتها السياسية على النيل من كرامة من تتوجه أعمال أولئك المثقفين إليهم، أي الناس، الذين يحرمون في تلك الدولة من حقهم في التعبير الحر عن آرائهم، كما لا يتورع حكامها من الإتيان بكل ما هو عجيب وغرائبي من قضايا التطبيع مع إسرائيل، إلى التطبيع مع مجرمي الحروب ومنتهكي حق البشر بالوجود.

إذا كان للمرء أن يتفهم رغبة المشتغلين في الوسط  الثقافي على تسويق منتجاتهم بطرق قد لا تبدو مناسبة ولا تليق بمنتجهم نفسه، كما أنه يتفهم حالة التنافس الاجتماعي والتكالب على المال والارتزاق في بعض الأحيان، في بلاد يكاد لا يحصل كتابها ومثقفوها إلا على النزر اليسير من جهدهم المستحق، فإن المرء في المقابل ليحار في فهم وتفسير سلوك ذلك النوع من المثقفين، الذي كلما بادلته بحديث عن موضوع ما من مواضيع الحياة كالضحك مثلًا، حتى تراه يسارع بالقول "آه الضحك، أتعرف أني خصصت صفحتين كاملتين عنه في روايتي الأولى "سهرة الديكة"، وأنه ما من شخص قرأها حتى تمنى نفسه لوكان ديكًا ضاحكًا"، وكلما حاولت أن تلهيه بالحديث عن أزهار الشتاء يرد عليك قائلًا: "آه أزهار الشتاء، أتعرف أني أفردت فصلًا كاملًا في روايتي "الكوخ القرمزي" عن أزهار التوليب والبابونج والميرمية وعشرين صنفًا من الجوري، هذا ناهيك عن الأزهار التي لا يلذ لها الاستيقاظ إلا في عز الصيف الخارق الحارق المتفجر، بما فيها تلك التي اعتادت على مقاومة لسعات البرد والحشرات ورغبات الكلاب المكبوتة وحساسية القطط".

كل ذلك لتصل إلى لعن الساعة التي فتحت معه حديثًا عن الشتاء وأزهاره. الأمر الذي يجعلك لا تجد تفسيرًا لمثل هذا الخراب النفسي الكبير سوى برده إلى نظام التفاهة، الذي أمسى يحكم مسلك أولئك الذين ظنوا، في لحظة تجلي ما، بقدرتهم القبض على مفاتيح الأشياء وأزرارها.      

تثير الملاحظات السابقة رغبة عظيمة لدى بعض المثقفين في الانخراط بالحديث عن كل شيء لا علاقة له بالمنجز الثقافي، من شاكلة الادعاء الكاذب لأحدهم بالمنزلة المعنوية الرفيعة التي يتربع على سدتها في عالم الشعر، أو تلك التي تجعل منه مثقفًا صميدعيًا لا يشق له غبار في مجال الرواية، هذا ناهيك عن إتقانه لفن المناكفة وعقد التحالفات، كما سعيه المحموم إلى ترجمة بعض أعماله المغمورة محليًا كمدخل إلى العالمية. كل ذلك دون أن يألوا جهدًا أو انتباهًا إلى المبدئين الأساسيين، الذين يلعبان دورًا محوريًا في جعل المنجز المتحقق عملًا ثقافيًا قابلًا للحضور والتسويق دون الحاجة للترويج المجاني له، وهما المبدآن اللذان ذهب إليهما الناقد والشاعر اللاتيني هوراس في معرض حديثه عن الأدب بوصفه جزءًا أصيلًا من الثقافة "الجميل النافع". أما لجهة كونه جميلًا فلأنه مصدر من المصادر التي تسبب السرور أو اللذة، حتى لو كان خطابًا عن الموت أو المأساة أو الفجيعة، ذلك أن الجميل يتناغم مع فكرة أن النص أو المنجز يحمل في داخله جميع العوامل التي تجعل منه سارًا ومبهجًا، وكأن لا هدف له سوى نفسه على النحو الذي نراه متجسدًا في الفكرة القائلة "الفن للفن".

مع أن النافع، أي القابل للتوظيف النفعي أو الاستعمالي في واقع الحياة اليومية، يبدو متعارضًا مع فكرة الجميل في قول هوراس السابق، إلا هذا التعارض بين النفعي والجميل، أو على نحو أدق بين الشكل الفني ومحتواه، سرعان ما يزول حين يتم ربطه بالحق والعظمة، ليبدو كل نص أدبي عظيم مثالًا ناصعًا عن النص الجميل المخصص لتمجيد الحياة وأسرارها، كما احتفائه بحق إنسانها بالعيش بكرامة.

ثمة فرق جوهري بين مثقف أصيل شقّ طريقه الوعر إلى الجليل والسامي، وبينه كصاحب مهنة، ينحصر همه الأول والأخير في اقتناص فرص العيش

يشير التصور السابق عن طبيعة العمل الفني إلى الجهد المتوقع إيلاءه من قبل أصحاب الخطاب الثقافي في حالة رغبوا المساهمة العميقة في المشهد الثقافي الذي يدعون الانتماء إليه. أما ما دون ذلك من عنجهية وكبر ورياء وادعاء، كما نفاق وتزلف وارتزاق، فلا يخرج عن كونه رغبة دفينة لدى البعض منهم بتحويل الشخصي واليومي المقيت الذي يعيشونه إلى نوع من المتعة الكونية، حتى ولو اتخذ لديهم شكل وصفة سحرية سخيفة لطهي الحصى والتراب، كما في الوقت نفسه رغبة مماثلة عندهم بتحويل الحسي المعجون بأدران التجربة الفردية الضيقة، إلى نوع من الحكمة المتعالية التي تستحق التبني والاحتفاء بها من قبل الآخرين والمريدين، كما لو كانت كشفًا خارقًا مع احتمالية انتماءها إلى كافة أنواع السخافة واللهو.

تكشف الترسيمة السابقة لطبيعة العمل الثقافي، الفرق الجوهري بين أن ينحاز العامل في ذلك الوسط إلى نفسه كمثقف أصيل شقّ طريقه الوعر إلى الجليل والسامي، وبين أن ينحاز إليه كصاحب مهنة، ينحصر همه الأول والأخير في اقتناص فرص العيش، غير عابئ بانزلاقه إلى هتك الأعراف الأخلاقية وكل ما يمت إلى الحق والحقيقة، ما دام تصوره الروحي للثقافة لا يخرج عن تصوره الروحي للحياة بوصفها مرتبة من مراتب البيولوجيا، التي تحفز رغبته بالعيش فيها وفق أي ثمن بخس كما أي منجز متواضع. كل ذلك دون أن يعي الفرق بين حالته كمثقف صاحب رؤية ومشروع وحالته كصاحب مهنة مستكلب، لاعتقاده متوهمًا أن إنتاجه في الحالتين يصدر عن ذاته الفاعلة، دون أن يدري أنه ينزلق عمدًا إلى العماء، الذي يمنعه من استبصار ذاته كنفس أمارة بالسوء والهوان.