26-فبراير-2016

مقهى في القاهرة (Getty)

في مطلع الألفية، كنت أخطو أولي خطواتي في مجتمع الثقافة والمثقفين، فكنت استكشف حينذاك الكتب والكتاب، كما كنت أستكشف المقاهي التي يجتمع عليها المثقفون، والندوات والإصدارات، و"التاون هاوس" الذي كان حينها المركز الثقافي الوحيد تقريبا في القاهرة الذي يوفر للشباب مساحة لعرض انتاجهم، وكان ذلك بالطبع قبل افتتاح ساقية عبد المنعم الصاوي عام 2005.

"المثقف اللي شغلته مثقف"، أي الشخص الذي يمكنه أن يحظى باحترام مجتمع المثقفين واعترافهم

في هذه الآونة دعاني أحد الأصدقاء إلى اجتماع جماعة أدبية شابة كان هو أحد أعضائها ومؤسسيها، وأثناء الجلسة دار الحديث عن "مثقف" غير موجود، وعلق أحد "المثقفين" الحاضرين بمنتهي الحسم والثقة والاستعلاء عن هذا الشخص قائلا إنه لا يعتبره مثقفا أصلا، وعلى سبيل التأكيد والاستهزاء قال إن هذا الشخص لا يقرأ سوي كتابين في الشهر!!

اقرأ/ي أيضًا: الذبح على الشريعة العلمانية

في الحقيقة، كنت حينها بالكاد أقرأ كتابا واحدا في الشهر– ومازلت بالمناسبة لا أزيد كثيرا على هذا المعدل إلا إذا انخرطت في عمل بحثي متخصص - فصدمني التعليق، وصدمتني أكثر الثقة التي تحدث بها الزميل "المثقف"، والطريقة التي مر بها التعليق دونما مقاومة من الحاضرين وكأنما الجميع يوافق الزميل الرأي.

وبعد انتهاء الجلسة، جاء صديقي الذي دعاني يسألني عن انطباعي ورأيي في الجلسة، فسألته وأنا أشعر بالحرج واهتزاز الثقة بما معناه "هو كتابين في الشهر دي حاجة وحشة قوي؟"، فنظر إلىّ مستنكرا ورد بكل ثقة: "آه طبعا"، فقلت "وما علاقة الكم بالموضوع؟"، فقال لي حرفيا: "القارئ العادي ممكن يقرا المعدل ده، لكن المثقف اللي شغلته مثقف –يعني متفرغ للثقافة- ماينفعش يكون بيقرا بالمعدل ده!!".

كان هذا فعليا أول لقاء لي مع "المثقف اللي شغلته مثقف"، أي الشخص الذي يمكنه أن يحظى باحترام مجتمع المثقفين واعترافهم. وهو الشخص الذي بعد أكثر من خمسة عشر عاما من محاولة التعرف عليه، صارت لدي قائمة شبه تفصيلية بمواصفاته العامة، بحيث صرت أعرفه جيدا إذا صادفته في أي مكان. وهي قائمة مفيدة كذلك للذين يخططون حاليا للحصول على اللقب. وإليكم بعضا من هذه القائمة:

"المثقف اللي شغلته مثقف" شخص يتميز بالاستعلاء: الاستعلاء سمة رئيسية وهامة، وهي الطريقة التي تتكلم بها عن الآخرين دائما بشيء من الاستخفاف مصحوبة بحالة من اليقين المصمت في الذات والاحساس بالامتلاء بالإجابات. فهو دائما يتعجب من رداءة مستوى الآخرين وسطحية تفكيرهم، كما أنه يحتقر أولئك الذين يلفتون نظره إلى أنه ربما يكون مخطئا. فـ"المثقف اللي شغلته مثقف" لا يكون مخطئا أبدا، هذه قاعدة معروفة.

"المثقف اللي شغلته مثقف" شخص يحتقر كل ما هو جماهيري ويقدر جدا الأشياء التي لا يقبل عليها الجمهور

"المثقف اللي شغلته مثقف" شخص يحتقر كل ما هو جماهيري ويقدر جدا الأشياء التي لا يقبل عليها الجمهور، لا لأنها جميلة أو جيدة، ولكن لأن الجمهور لا يقبل عليها وحسب. فهذه الأشياء فرصة مناسبة جدا لممارسة حالة الاستعلاء على عاثري الحظ هؤلاء الذين لا يعرفون قيمة هذه الأشياء (راجع النقطة السابقة). فمثلا، هو يحتقر السينما الأمريكية لأن جمهورها عريض ويحتقر من يقدرونها، بينما يقدر السينما الفرنسية والألمانية، ويتعجب دائما كيف لا تخصص الدولة نصف ميزانيتها لإذاعة أفلام فرنسية وألمانية في محطات المترو لرفع "مستوى الذوق العام"، ولو فعلت الدولة لصارت لهذه الأفلام شعبية ولفقد هو بذلك لذة أن ينطق أمامك اسم فيلم أو مخرج أو ممثل لم تسمع به من قبل.

"المثقف اللي شغلته مثقف" يتميز بالحدية والتطرف الفكري، فهو عادة ما يعطي أحكاما قطعية وحاسمة. صغار المثقفين يعشقون هذا النمط من المثقف الحدي القاطع ويعتبرونه مثلا أعلي، وخاصة في الأجواء الثورية التي عاشتها البلاد في السنوات الأخيرة. فهذا النمط يمنحهم شعورا بالأمان بأن هناك من يعرف الحقيقة المطلقة، وأن ليس عليهم أن يقلقوا من التيه.

اقرأ/ي أيضًا: حاجتنا إلى مهدي عامل

"المثقف اللي شغلته مثقف" عندما يأتي الحديث عن المشاهير، لا يحب أن يستخدم الاسم الجماهيري المعروف لهذه الشخصيات، فهذا يجعله يبدو كأي واحد من المعجبين العاديين بهذه الشخصية المشهورة أو كأي قارئ مبتدئ، وخاصة مع الشخصيات المعاصرة. فمثلا يبدأ الحديث عن كاتب شاب لامع ذاع صيته مثل "أحمد مراد" فيقول معلقا أن "(أحمد) شاطر وبيجتهد، بس مستعجل شوية"، أو يدور الحديث عن السينما وتُذكر مخرجة شابة ذاع صيتها مثل "هالة خليل" فيعلق مؤكدا أن "(هالة) كادراتها حلوة"...هكذا يبدو أقرب إلى النخبة المثقفة منه إلى الجمهور العادي.

"المثقف اللي شغلته مثقف" يستعمل اللفظ الغريب للدلالة على نفس المعني البسيط، فمثلا يقول "يتموضع" بدلا من "يحتل موضعا"، و"التعاطي مع الموضوع" بدلا من "تناول الموضوع"، كما أنه يحب التصنيفات التي تقع علي وزن "فعولية"، فـ"الإمبريالية التوسعية الأمريكية، تواجه الشعوبية الشمولية الروسية بوساطة الانتهازية الاقتصادية الأوروبية وعمالة الصهيونية الإسرائيلية العالمية"...حاجة واضحة زي الشمس.

كل الشفقة على أولئك الذين يعتبرون الثقافة مباراة في الاستعلاء والتقعير والانفصال عن الواقع والناس

"المثقف اللي شغلته مثقف" لا تفوته الموضة الثقافية لهذه الأيام، فعندما يحين موسم الحديث عن "هايدجر" أو "فوكو" أو "حنا أرندت" يكون مستعدا، وسيكون مستعدا كذلك لنقد المسيري بعنف كعلامة على البلوغ الفكري.

"المثقف اللي شغلته مثقف" معارض دائما، وهو يقضي عشرة أعوام على المقهى في التنظير لتغيير النظام حتى تأتيه منحة التفرغ من وزارة الثقافة.

"المثقف اللي شغلته مثقف" عادة لا يحب العمل، لكنه يقضي وقتا جيدا في الدعوة لمجتمع أناركي.

كل التحية والتقدير لأصدقائي المثقفين الحقيقيين الذين يعرفون معنى الثقافة كمسؤولية شخصية واجتماعية، وكمسار تربية ذاتية قبل أي شيء آخر، وكل الشفقة لأصدقائي الذين يعتبرون الثقافة مباراة في الاستعلاء والتقعير والانفصال عن الواقع والناس.

اقرأ/ي أيضًا:

عنتريات فرعون صغير

السيسي.. خُطب الدكتاتور المأزومة