01-يونيو-2023
 (MIDJOURNEY) صورة مولدة عبر نموذج الذكاء الاصطناعي

(MIDJOURNEY) صورة مولدة عبر نموذج الذكاء الاصطناعي

كنا نتحلق حوله كعادتنا كل ليلة أربعاء. كتاب شبان يطمحون أن يغدوا معروفين، وصحفيون يطمحون أن يغدوا كتابًا. وكان هو، الستيني ذو الصلعة المهيبة والعينين الذكيتين، نقطة المركز في كوننا الصغير البهيج المترع بالوعود والبدايات المشرعة.

ولأنه كاتب مرسخ ومشهور (نسبيًا بالطبع)، ببضع روايات وعدد من المجموعات القصصية الناجحة، ولأنه قارئ نهم وصاحب مكتبة ذائعة الصيت، فقد كان مؤهلًا ليصبح رائدنا الأدبي، ومرشدنا الروحي كذلك..

تريد أن تبني عمارات من خيال، وتخترع شخوصًا من حبر وورق. تعتقد يا مسكين أن عماراتك القصصية سوف تعلو فوق ناطحات السحاب

 

ولكنه في تلك الليلة تحديدًا كان مختلفًا. غابت ابتسامته الطفولية الودودة، وتبدل وجهه الصافي، واختفت عيناه المشعتان خلف سحابة نكد سوداء كتيمة. وبدا لنا، فجأة ولأول مرة، وكأنه يكرهنا جميعًا.. وأمام نظراتنا المستهجنة المستفسرة، راح يبحث عن سبب ليتعارك معنا، إلى أن منحه أحدنا سببًا للانفجار.

كان هذا شابًا يحضر لأول مرة. قدم له قصة قصيرة من بضعة أوراق. سأله شيخنا عن عمله، فقال: "أدرس الهندسة.. في السنة الثالثة"، فما كان من الكاتب الكبير إلا أن رمى الأوراق في وجهه وصاح بصوت راعد مرتجف: "ماذا؟!.. هل أنت أحمق يا ولد.. أنت مجنون بلا شك.. أغبى ولد أشاهده في حياتي..".

صمت لثوان، وجال بعينيه الملتهبتين علينا، ولا نعرف إن كان قد لاحظ بأن جميع من حوله قد صاروا كتلًا من جليد. تابع وبلا توقف:

"أيها المغرور الساذج.. أعرف بماذا تفكر. أنت لا تريد أن تساهم في بناء العمارات التي من رمل وإسمنت، ولا يعجبك التعاطي مع أناس من لحم ودم. تريد أن تبني عمارات من خيال، وتخترع شخوصًا من حبر وورق. تعتقد يا مسكين أن عماراتك القصصية سوف تعلو فوق ناطحات السحاب، وأن شخوصك المختلقين سوف يجوبون العالم ويسكنون ضمائر الناس إلى الأبد. وتعتقد أنك سوف تعيد خلق العالم، وتكون بذلك خالدًا..

لا تعرف يا ولد أي خيبة تنتظرك، أي شقاء يتربص بك.. سوف تقضي الليالي معذبًا من أجل اختراع جملة، تركيب غير مسبوق، نحت شخصية ما.. وتتوهم أنك جلبت شيئًا جديدًا للدنيا، وأنك قدمت دهشة للعالم.. ولكنك سرعان ما ستدرك أن كلماتك العظيمة ستذهب أدراج الرياح، مع ملايين.. مليارات الكلمات الأخرى التي يطلقها البشر كل يوم.. في الصحف والإذاعات ومحطات التلفزيون وفي الكتب وعلى صفحات الفيس والتويتر. وأن شخصياتك المبتكرة هي أكثر هشاشة منك وأكثر قابلية للعطب. ولن يقابلك العالم إلا بالإهمال واللا مبالاة، فتعيش منعزلًا، وحيدًا، بل متوحدًا.. وتغدو موسوسًا مضطربًا، مريضًا مزمنًا بالكآبة، نصف عقلك هنا ونصفه الآخر في السديم الذي خلقته بنفسك ولنفسك. وتعيش إلى الأبد أسير مظلومية متوهمة، شاكيًا من جحود الناس وموازينهم المقلوبة (التي تعتقد أنت أنها مقلوبة). وفي النهاية.. ماذا في النهاية.. لا شيء سوى أنك ستصبح عجوزًا كامل الحماقة، تحيط نفسك بصبية تمثل أمامهم دور المرشد الناصح العارف، وأنت في الحقيقة مجرد ضائع تبحث فيهم عن تبرير لحياتك.. عن قشة لتنجو بها من الغرق في لجة يأسك".

توقف ليلتقط أنفاسه ويجدد طاقة غضبه، ثم صاح: "انصرف من هنا فورًا.. انصرفوا جميعًا.. اخرجوا من بيتي ولا تروني وجوهكم بعد اليوم".

وخرجنا أرواحًا محطمة. وظلت تلك الليلة سرًا بيننا، لم نتفوه به لأحد ولم نذكّر به بعضنا أبدًا. منا من مزق أوراقه وانصرف إلى شأن آخر، ومنا من كابر وتابع، ومنا من تحول إلى بيع "البوشار" للصحف.

بعد أكثر من سنة طرق باب غرفتي. دخل مطأطئًا رأسه كأنما جاء يعتذر عن ذنب ارتكبه بالأمس. وقال متلعثمًا: "أنت تذكر تلك الليلة بالطبع.. لا تمثل النسيان، أنت تذكرها بالتأكيد. وتذكر ذلك الشاب. إذا كنت لا تزال تعرفه فقل له أن ينسى كل ما سمعه مني. قل له إنه كان كلام عجوز خرف. وإذا ما كان محكومًا، حقًا، بشهوة سفك الحبر فلا شيء سوف ينجيه من قدره المحتوم، وأن الشيطان الذي يسكنه لن يهدأ حتى يجبره على تحقيق نزواته الجهنمية.. قل له أنه سيعرف الشقاء إذا كتب ولكن شقاءه سيكون أكبر إذا لم يكتب.. وأننا في الحقيقة لا نفعل شيئًا في الحياة سوى أن نتلهى عن مراقبة موتنا القادم لا محالة، وإذا ما كانت طريقته المثلى في هذه التسلية هي نسج الحكايات واختلاق الأكاذيب البريئة فلا بأس..".

بعد دقيقة صمت بدا وكأنه يريد إضافة شيء ما، ولكنه غير رأيه فوقف وانصرف..