22-يوليو-2019

الشاعر والكاتب محمد ديبو

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


محمد ديبو شاعر وباحث وقاص من سوريا. عمل محرّرًا في العديد من المنابر الصحافية. من أعماله، في الشعر: "لو يخون الصديق"، وفي القصة "خطأ انتخابي"، في اليوميات "كمن يشهد موته".


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

كلما تأملت علاقتي مع الكتاب أو سئلت سؤالًا كهذا، يخرج ذلك الطفل المختبئ في داخلي ويقودني إلى زمكان الطفولة، حين كان اللعب في شارع القرية التي يحتل الفقر وجوه أبنائها، وانتظار الحلوى والهدايا هو كل ما يفكر به المرء. أطل من "الهنا" على ذلك الماضي "الهناك"، فأرى مشهدين/ حدثين رسما علاقتي مع الكتب، وساهما فيما أنا عليه الآن:

المشهد الأول: طفل يتفوق في دراسته، لا لأنه يحب التفوق، بل لأن أحد أقرباء العائلة وعده بأن يجلب له هدية إن "طلع الأول على صفه"، وهي العبارة التي سيكتشف الطفل حين يكبر أنها العبارة التي يقولها كل آباء وأمهات سوريا لأبنائهم دون أن يفوا بها بالضرورة، وكأنهم تعلموا الكلام وأسس التربية من مصدر واحد!

الهدية التي كانت عبارة عن مجموعة قصص مخصصة للأطفال، لم يكن لها أثر إيجابي آنذاك حين استلمتها، إذ بدا الأسى والخيبة واضحين على محيا الطفل الذي كان ينام ويحلم كل يوم بالهدية، ففي حلم ما تكون الهدية حلوى لذيذة، وفي حلم آخر لعبة جميلة يتباهي بها أمام وعلى أطفال القرية، وفي ثالث كرة قدم، وفي رابع ثيابا جديدة... أما تلك الهدية فلم يكن لها إلا طعم الخيبة التي بقيت عالقة في حلقي طوال اليومين التاليين، وهي الخيبة التي لم يزل طعمها يرطب لساني حتى اليوم، وكأني أتذوقها للتو! ولكن الرجل (الذي سيصبح زوج أختي لاحقًا)، والذي انتبه لخيبتي، أخبرني شيئًا، قال لي: اقرأ القصص وسنتحدث بها لاحقًا!

بفعل الخيبة التي أحكمت قبضتها عليّ، لن أتمكن من مدّ يدي إلى القصص، الأمر الذي دفع أختي لأن تقرأ لي إحدى القصص ثم طلبت مني قراءتها مرة أخرى، وناقشتني بها، ثم تشجعت وقرأت القصة الثانية لوحدي، فانفتح أمامي عالم جديد من الكلمات والأحلام والرؤى، وبت أسافر كل يوم إلى مكان جديد، خاصة أنه لم يكن في بيتنا تلفزيون، بل صرت أتباهى أمام أصدقائي بقصصي، بعد أن كنت أخجل أن أحدثهم عن هديتي.

المشهد الثاني: في بيت الطفولة حيث عشت، كان يوجد "نملية" (خزانة لوضع الطعام والمؤونة) لا تطالها يدا طفولتي، وكان يوجد على سطحها كيس أبيض مغلق على الدوام، وحين كنت أسأل أمي عنه كانت تنهرني وتقول "أوا"! كثيرا ما حاولت "العربشة" لأصل سطحها دون جدوى، وألمس تلك "الأوا" دون جدوى.

في إحدى المرات، كان أهلي ينظفون البيت، ولذلك كان الكيس الأبيض على الأرض في غرفة أخرى، فيما أمي وأخواتي ينظفن "النملية"، فذهبت إلى الكيس وفتحته كما يفتح لص باب بيت بدافع سرقته، فإذا بكتب حمراء اللون وعليها صور لرجل أصلع تشبه صلعة أبي الذي لم أره إلا في الصور، وآخر له ذقن طويلة تشبه ذقون الشيوخ في قريتي، فظننت أنها صور لأقرباء أبي! وفعلًا كانت قرابة من نوع أخر، إذ كان أبي شيوعيًا وكانت هذه كتبه، فانفتح طريق ثاني في حياتي.

اليوم، حين أطل على هذين الحدثين، على خيبة الطفل في داخلي، وكتب أبي، أدرك أنه لولاهما لما كنت ما أنا عليه اليوم، أي الرجل الذي لا يكون يومه يومًا ما لم يكن حافلًا بالقراءة، إذ تحولت القراءة إلى إدمان حقيقي، فحين تغيب تظهر أعراض الإدمان على الروح والجسد في آن، فأدرك أن الدواء كامن في "الداء": القراءة والقراءة.

  • ما هو تأثير الكتاب أو الكتب الأكثر تأثيرا في حياتك؟

حتى هذه اللحظة، أستطيع القول أني ابن اثنين "أمي والكتب"، فهما الفاعلين الأكثر تأثيرًا في حياتي. وإذا أردت أن أتحدث بلغة الحسابات، فإني أعطي لأمي والكتب حوالي سبعين بالمائة من التأثير في حياتي، فأنا تعلمت الحياة من الكتب وأمي. وإذا علمنا أن أمي كانت غائبة طوال الوقت لتحصيل لقمة العيش منذ وفاة أبي (توفي وهي حامل بي في الشهر الثالث)، فهذا يعني أن الكتب وعوالمها كانت كل عالمي وفضائي، وزاد عليها أني كنت خجولًا ومنطويًا، لذا كان الكتاب، دائمًا وأبدًا، ملاذي، الأمر الذي ترك أثره الواضح فيّ، فأنا حتى الأن أتحدث في شؤون الحياة اليومية، وكأني أقرأ في كتاب، إذ كثيرًا ما أستخدم اللغة الفصحى في حديثي مع الحلاق وفي السوبر الماركت أو في حديث يومي عابر.. أدرك ذلك، حين أنتبه إلى ردة فعل من حولي إلى كلامي، فأعيد ضبط اللغة مجددا لأبدو أتحدث "مثلهم" دون أن أكون "مثلهم" أبدًا، إذ دائمًا ما أشعر بالغربة التي أدرك جيدًا أن سببًا كبيرًا منها يعود إلى عدم اقتناعي حتى اليوم، أن ما في الكتب يجب أن يبقى في الكتب، فأنا أبحث عنها في الحياة، وأسعى لأن أعيشها كما لو كانت كتابا.

"أنت عايش بالأحلام"، و"شو مفكر الحياة متل الكتب يلي بتقراها".. هي عبارات كنت أسمعها دائمًا من أهلي ومحيطي حين أطرح رأيا صادما لهم، أو حين لا أتفق معهم على رأي.. لأدرك حقا أن الكتب صنعتني ولا تزال.

  • من هو كاتبك المفضل ولماذا أصبح كذلك؟

في مجال الأدب، إن كاتبتي المفضلة هي إيزابيل الليندي. مجرد ما أفتح الصفحة الأولى من روايتها حتى أنسى كل ما حولي، أغوص في عوالمها، أبحر في "بيت الأرواح" وأعبر إلى "الحب والظلال" كـ "العاشق الياباني" نحو "ابنة الحظ" في "صورة عتيقة".

دائمًا أنجذب إلى الرواية التي تحقق أمرين: المتعة والفائدة، فالرواية دون أسلوب جاذب مشوّق تغدو مملة، وأيضًا دون وجود فائدة حقيقية تصبح المتعة لا معنى لها. إن الروائي أو المبدع الجيد، هو ذلك القادر على إدارة تلك الخلطة السحرية الخاصة به، عبر الجمع بين الأمرين، وهذا ما تنجح به إيزابيل جيدًا، ناهيك عن كون روايتها تقلب أحشاء التاريخ وتعيد بناءه، وهذا ما ينقلها من ضفة الحكاية إلى الرواية بامتياز، إذ أفرق بين الحكاية والتي تكون مجرد "حدوتة" وبين الرواية التي تغوص في عمق الشخصيات والأحداث والتواريخ لتصنع لنا تاريخًا موازيًا وسرديات موازية تكسر سرديات السلطات بكافة أشكالها، الدينية والسياسية والاقتصادية.

أما كاتبي المفضل في مجال الفكر والفلسفة وعلم النفس... فهنا لا كاتب مفضل، إذ نحن هنا أمام مجال مختلف كليا وفق رأيي، إذ لا يصح أن يكون للمرء كاتب مفضل هنا وإن انحاز في كل فترة إلى أحدهم، لأن الكتابة هنا هي فعل تراكمي وتكاملي، قائمة على النقد والتجاوز الدائم، إذ دائمًا تأتي فكرة أو مدرسة أو تيار لينفي ما قبله أو يثبت بطلانه، ولكن هذا التجاوز/ البطلان/ النفي لا يتم إلا بعد الاستناد إلى ما سبق، إذ لولا الحداثة لما كانت ما بعد الحداثة وهكذا.. ما يعني أننا لا يمكن أن نفهم جيدا فوكو أو دريدا دون أن نعرف شيئًا عن ديكارت وأرسطو وأفلاطون وماركس.. إذ حتى لو لم نقرأ الأخيرين، فإن أفكارهم موزعة وموجودة في كتابات اللاحقين بطريقة أو بأخرى، الأمر الذي يعني أننا هنا أمام فكر يتجاوز نفسه دائمًا، ولهذا ليس لي كاتب مفضل هنا، بل كلهم كتّاب مفضلون بالمعنى المعرفي، رغم أننا ننحاز بالضررة إلى أفكار أحدهم في تكوين خياراتنا وشخصيتنا المعرفية إن صح التعبير، الأمر الذي يدفعني للقول هنا: ليس لي كاتب مفضل في مجال الفكر والفلسفة بل كتب مفضلة، وربما كاتب مفضل في كل مرحلة، ثم يأتي لاحقًا آخر ليحتل مكانه دون أن يقصيه.

  • هل تغيرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

حتى الآن أعتمد الكتاب الورقي في قراءتي اليومية، وأفضله على الكتاب الإلكتروني. وهذا ليس بفعل انتمائي إلى عالم قديم أو حديث، بل لسبب عملي، وهو كون أني أعمل في الصحافة، فإني أقضي يومي أمام الكمبيوتر، ولهذا حين أنهي عملي أكون متعبًا ولا يكون لدي طاقة للنظر في اللابتوب والقراءة الإلكترونية، فيكون الكتاب الورقي ملاذي.

لكن على مستوى آخر، أنا مؤمن أن المستقبل للكتاب الإلكتروني، وهذا أمر لا يضير الكتاب الورقي بشيء، فالأمر ليس له علاقة بالأفضلية بل بالتطور الذي بات يكتسح كامل مجالات الحياة والمهن. وصناعة الكتاب هي "صنعة" في نهاية الأمر، ومن الضروري أن يطالها التطوير والتغيير.

  • حدثنا عن مكتبتك؟

مكتبات السوريين تشبه أحوالهم اليوم، فكما هم موزعون في بقاع الأرض كذلك هي كتبهم وأحلامهم. مكتبتي تشبه وطني، إذ كما حلمت أن يكون لنا وطن جميل يسود فيه القانون وتداول السلطة ونزاهة القضاء وحرية التعبير وحقوق الإنسان... حلمت دائمًا أن يكون لدي بيت فيه مكتبة كبيرة، أو بالأحرى أجمع فيه كتبي المبعثرة في أكثر من مكان من العالم، فلا الحلم الأول تحقق ولا الثاني.

قبل عام 2011 كان كتبي موزعة بين البيوت التي أتنقل فيها في دمشق بفعل الإيجار وبين بيت القرية. ولكثرة التنقلات في دمشق، نقلت القسم الأكبر إلى القرية (كي أرتاح من عبء نقلها كل مرة معي) ريثما أتمكن من شراء بيت في دمشق وأجمع شمل مكتبتي، وهو الأمر الذي لم يحدث.

في عام 2014، قررت الانتقال إلى بيروت، تركت كتبي في البيت الذي غادرته فجأة تحت جنح الصمت والظلام، وبعد وصولي إلى بيروت كنت أطلب من الأصدقاء تهريب الكتب التي أعتبرها مهمة من وجهة نظري، ثم أودعت القسم الأكبر منها عند صديقة عزيزة لا تزال تحرس أحلامنا وخطواتنا في دمشق، وقسما أقل عند أصدقاء أخرين، وبدأت أكون مكتبتي في بيروت من جديد.

في نهاية عام 2016 انتقلت إلى برلين فجأة أيضًا، وبقيت مكتبتي في بيروت برفقة أصدقاء، حيث أحاول أن أجمعها من جديد، إذ كلما جاء أحدهم من بيروت أو ذهبت هناك أجلب قسمًا منها، فيما أكون مكتبتي اليوم في برلين برفقة شريكة الكتب والأحلام والحب.

إن مكتبتي موزعة اليوم، بين القرية في الساحل السوري وبيوت الأصدقاء في دمشق وبيروت وبرلين، فهل سيلتم شمل كتبي/ مكتبتي يوما ما؟

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

أقرأ الآن كتاب "أطفال منتصف الليل" لسلمان رشدي، إذ سبق لي أن قرأت له "سنتان وثمانية شهور وثمان وعشرون ليلة" وكان انطباعي غير إيجابي، لذا أقرأ اليوم كتابه هذا، وسأقرأ له "آيات شيطانية" أيضًا، لأكوّن فكرتي عن هذا الكاتب.

أحاول مؤخرًا أن أقرأ كل ما فاتني من كتب كان يجب قراءتها، أي ما أسميها "الكتب المؤسسة"، وأقسم قراءتي بين قسمين: الأدب من جهة والفكر والفلسفة من جهة أخرى. والشيء الوحيد المزعج في حياتي في برلين أن القليل من الوقت يبقى للقراءة لأسباب كثيرة ليس مجال سردها هنا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة محمود هدهود

مكتبة أسماء حسين