15-يوليو-2019

الليندي وروايتها

أيها الأجانب.. ها هو ذا

إنه وطني

هنا ولدت وهنا تعيش أحلامي

بهذا المقتطف من شعر بابلو نيرودا، تستهل الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي روايتها التي أعلنت عنها في السابع والعشرين من شهر أيار/مايو الفائت في مؤتمر صحفي من دار أمريكا* في العاصمة مدريد.

تخوض الكاتبة عبر هذا العمل في حدثين مفصليين، الأول إسبانيٌّ بحت يتناول الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1936 أما الآخر فيخص تشيلي وشاعرها بابلو نيرودا وسفينته التي لم يعرف عنها إلا قلائل: سفينة وينيبنغ*، إذ تكشف لنا الكاتبة الوجه الإنساني للشاعر من خلال "قيامه باستقدام باخرة خاصة بعد الحصول على إذن من الرئيس التشيلي آنذاك بيدروا سيردا الذي أوفده إلى العاصمة الفرنسية باريس كمبعوث خاص للهجرة الإسبانية، لكن دون أن تحظى مبادرته بأي تمويل حكومي بسبب الأزمة الاقتصادية التي كانت تمر بها تشيلي آنذاك وتخوف المعارضة التشيلية من المحافظين ورعاة الكنيسة الكاثوليكية من أولئك اللاجئين (الشيوعين، الحمر، مغتصبي الراهبات، المجرمين، مسببي البطالة، وإلى ما ذلك من الأفكار المعادية للاجئين الشبيهة بالتي مازلنا نسمعها حتى اليوم)، لتصل إلى الشواطئ الفرنسية حيث تجمع آلاف الهاربين من هول الحرب والذين وجدوا أنفسهم محتجزين ضمن أسلاك شائكة في شروط لا إنسانية، وتنقلهم أخيرًا إلى تشيلي.. حيث نقلوا بعدها في قطار استوقفه الاهالي مرارًا ليمرروا للمسافرين عبر النوافذ الصغيرة كل ما تيسر في بيوتهم وقلوبهم من طعام ومحبة".

تتناول رواية إيزابيل الليندي الجديدة دور الشاعر التشيلاني بابلو نيرودا الذي استقدم سفينة على حسابه لينقل لاجئين تشيليين

تقول الكاتبة ردًا على سؤال الإعلامي التشيلي إيفان غريرو لها في مقابلة خاصة، في إطار جولتها لاستكمال عرض العمل، عن مدى صعوبة الخوض في حدث حساس شكل ندبة في تاريخ إسبانيا الحديث وما يستلزمه من بحث معمق: "لم يكن هدفي الكتابة عن الحرب الأهلية الإسبانية، بل عن الوبنيبنغ وقصص من كان على متنها، عن الشاعر الذي اشترى سفينة على حسابه لينقل لاجئين فارين من هول الحرب إلى مكان آمن، وهو فعل خارج عن المألوف، هل يمكن لأحد ما في أيامنا هذه أن يفعل ما فعله نيرودا! حسنٌ لا أعتقد ذلك، لقد أشرف شخصيًا على انتقاء اللاجئين الذين سيبحرون على متن وينيبنغ، كان هنالك أوامر حرفية بأن لا يصعد على متن السفينة أصحاب الرأي، طُلب منه أن يحضر أصحاب المهن الذين يمكن أن ينقلوا حرفهم لأهل تشيلي".

اقرأ/ي أيضًا: إيزابيل الليندي: الحياة بلا تخطيط

هذا يعني أن السلطات تدخلت في عملية انتقاء اللاجئين الذين سيصلون تشيلي، الذين سيشكلون حسب قولها "هواء أوروبيًا جديدًا يدخل تشيلي".

تحكي لنا الكاتبة عبر روايتها التي جاءت ضمن 382 صفحة، الصادرة عن دار فينتاج إسبانيول، أو كلاسيكيات إسبانية، والتي تبدأ أحداثها عام 1939 لتنتهي عام 1994، قصة اللجوء على لسان بطلي العمل الطبيب فيكتور دالماو، وعازفة البيانو روسير بروغويرا، الشريكين الذين غادرا إسبانيا هربًا من حربها الأهلية ليصلا إلى تشيلي مع من وصلوا على متن باخرة وينيبنغ، كما تطرح من خلالهما حالة من الحب "الناضج" كما تصفه، والذي من وجهة نظرها يرافق مرحلة عمرية محددة، وتتلخص في اكتشاف الحب دونما سعي إليه والشعور به دون تعريفه، حب الصداقة والتعايش والتجارب المشتركة، فاللذان يتزوجان بالاتفاق كي يتمكنا من الوصول إلى تشيلي على أن يتم الطلاق لاحقًا، لايفعلان ذلك حين يكتشفان أن ما يشعران به هو حب حقيقي.

تعتمد الرواية في حبكتها على وقائع حقيقية ومؤرخة وشهود ما زالوا يحملون ذلك الحدث في ذاكرتهم، هذا ما أكدته الكاتبة في حديثها عن فيكتور بي أحد المصادر الحية التي اعتمدت عليها في إنجاز العمل، وهو صديقها الإسباني الذي كان على متن الوينيبينع الذي تعرفت عليه في فنزويلا حيث كانا لاجئَين فيها بعد الانقلاب الذي أطاح بعمها الرئيس الشيوعي الأول الذي حكم تشيلي سلفادور الليندي عام 1973، وكان ذلك لجوءه الثاني، وتذكر كيف أنه حدّثها عن تفاصيل تلك الرحلة، لكن تلك المحادثات العابرة لم تكن الأخيرة فمع امتداد الصداقة بينهما حتى لحظة وفاته، التي كانت منذ أشهر قليلة استمرت المراسلات بينهما، ومن خلالها أمدها بكل ما امتلك من وثائق وتفاصيل دقيقة احتفظت بها ذاكرته عن تلك الرحلة.

تورد الكاتبة في نهاية روايتها، تحت عنوان "شكر خاص" والتي حصلتُ على نسخة منها منذ أيام قليلة عقب طرحها في الأسواق في مطلع الشهر الجاري، المقطع التالي: "سمعت عن باخرة وينيبنغ، باخرة الأمل، في طفولتي للمرة الأولى في بيت جدي وبعد ذلك بزمن طويل عاود ذلك الاسم المثير للاهتمام للظهور مجددًا في حديث مع فيكتور بي في فنزويلا، حيث كنا لاجئَين، في ذلك الوقت لم أكن كاتبة ولم أتخيل يومًا أنني سأصير كذلك، لكن حكاية تلك السفينة ومن كان على متنها من اللاجئين انطبعت لدي عميقًا في الذاكرة حتى جاء أخيرًا اليوم الذي سأحكي فيه عنها بعد أربعين عامًا. أريد أن أشكر من قلبي كلًّا من فيكتور بي الذي توفي منذ فترة قصيرة عن عمر يناهز 103 عامًا، وقد بقيت بيننا مراسلات معلقة بشأن بعض التفاصيل، وكذلك الدكتور أرتورو جيرون صديقي في اللجوء. والشكر أيضًا للشاعر بابلو نيرودا لأنه قام بنقل اللاجئين الإسبان إلى تشيلي، وكذلك لشعره الذي رافقني دومًا".

على الغلاف الداخلي للكتاب نرى صورًا بالأبيض والأسود عن تلك الرحلة، من بينها صورة تظهر أناسًا يفترشون أرضًا قاحلة ومتاعهم الخفيف حولهم خلف أسلاك شائكة، وأخرى لجريدة عنونت بالخط العريض "انطلاق الوينيبنغ"، ثم بخط أصغر "سفينة التضامن الأمريكية، يبحر نحو تشيلي 2.100 لاجئ". كما صور لمظاهرات وأخرى للشاعر نيرودا من بين أخرى.

تعتمد الرواية الجديدة لإيزابيل الليندي في حبكتها على وقائع حقيقية ومؤرخة وشهود ما زالوا يحملون الحدث سفينة نيرودا في ذاكرتهم

إذًا هي رواية عن تشيلي، عن اللجوء والحنين، عن الحب والحرب، وعن الشاعر الكبير بابلو نيرودا الذي كان حاضرًا بقوة في كافة أجزاء الرواية، ولم يقتصر ذلك الحضور على مقتطفات من قصائده في مستهل المقاطع الثلاثة عشر فحسب، بل إن عنوان الرواية بحد ذاته مأخوذ عن مطلع قصيدته "يومًا ما في تشيلي"، الصادرة ضمن مجموعته الشعرية "العنب والريح" عام 1954 التي جاءت تعبيرًا عن حنينه في فترة لجوءه خارج تشيلي لأسباب سياسية يقول فيها: "آه يا تشيلي، يا بتلة ممتدة من بحر وثلج ونبيذ"، فجاء العنوان "بتلة طويلة من بحر"، وهي الترجمة الحرفية، ويمكن أن يترجم أيضًا "وردة البحر الطويلة"، أو "بتلة بحر ممتدة".

اقرأ/ي أيضًا: في مطبخ الكتابة

وحول سبب اختيارها لهذا العنوان تقول الكاتبة: "قبل البدء بالعمل على الرواية، في الثامن من كانون الثاني/ يناير، وهو التاريخ الذي اعتمده للمباشرة في الكتابة كل عام، أمضي فترة لا بأس بها في قراءة الشعر، ولأنني هنا حيث أقيم أتعامل باللغة الإنجليزية طوال الوقت، أجد نفسي بحاجة إلى الحفاظ على مخزوني اللغوي، وذلك الريتم الخاص الذي يصبغ لغتي الأم، لذلك كان شعر نيرودا رفيقي الدائم، كنت أعيد تخيل تشيلي بعينيه، ولما كانت هذه الرواية عنه وعن تشيلي كان لا بد أن يكون العنوان من وحي شعره، إذ إنه كان قد وصف تشيلي في إحدى قصائده ببتلة ممتدة من بحر وثلج ونبيذ، فنحن إن نظرنا إلى تشيلي من السماء فإنها تبدو على الخريطة أشبه ببتلة طويلة ممتدة بمحاذاة البحر، ومن هنا كان العنوان".

إذًا فالكاتبة تؤكد لنا بأن رواية عن تشيلي وتاريخها الحافل بالأحداث السياسية والاقتصادية غير ممكنة، دون حضور شاعرها الأجمل نيرودا أفضل من نقل صورتها قصائدَ تجوب العالم.

 

إهداء

"إلى أخي خوان الليندي

وفيكتور بي وإلى آخرين

من بحّارة الأمل".

 

هوامش:

  • دار أمريكا أو كاسا دي أمريكا هو اتحاد عام تأسس عام 1999 في مدريد، من قبل وزارة الخارجية بالتعاون مع مجتمع مدريد المحلي ومقره قصر ليناريس، يهدف إلى تعزيز الروابط بين إسبانيا والأمريكيتين وخاصة أمريكا اللاتينية، ويشجع على هذا النهج من خلال المؤتمرات والمعارض والأوساط الأكادمية والأدبية. 
  • وينيبينغ  (Winnipeng)اسم الباخرة التي استقدمها الشاعر نيرودا بموافقة السلطات التشيلية إلى فرنسا لنقل اللاجئين الإسبان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إدواردو غاليانو: الحروب تكذب

بيازولا: ليس بالضرورة أن يكون التانغو بكّاء