01-ديسمبر-2022
غرافيتي لـ مارادونا

غرافيتي لـ مارادونا

مع دوران الكاميرا بين نجوم أزمنة كروية سابقة انتقلوا من الملاعب إلى المدرجات، نشعر أنّ ثمة مكانًا فارغًا لمارادونا، مع أنه بدا في آخر ظهور عالميّ له في مونديال روسيا غير متوازنٍ، ثملًا وغاضبًا في مرة، ونائمًا في الأخرى. فهل أراد توديعنا بتلك الصور التي تقول إنها من طينة الاستهتار الذي عاش فيه؟

مارادونا شخصية واقعية. لاعب شهير. نجم لأجيال. صاحب حضور صاخب. لكنّ ثمة في وجدان عالمنا المعاصر ما يريد أن يؤسطره على الدوام. فهل يعود ذلك إلى قصة صعوده من قاع الفقر والحرمان إلى الأبهة والشهرة؟ أم لأنه ينحدر من أمريكا اللاتينية التي لا تتوقّف عن إعطائنا مزيدًا من المجانين في كل نطاق، من الثوّار إلى الأدباء، وحتى المجرمين؟

جعلت نابولي من مارادونا يوم جاءها في ثمانينيات القرن الماضي يشارك القديس جينارو، حامي المدينة، في المكانة

 

صدر في عام 2019 وثائقي "Diego Maradona" لآصف كاباديا يجعل المشاهد يظن أن الحياة التي عاشها ذلك اللاعب ليست سوى قصة سحرية لروائي من أمريكا اللاتينية، فحياته تمتلك ما يجعلها تفوق الخيال الأدبي بأشواط.

علاقته مع مدينة نابولي الإيطالية علاقة استثنائية. وهي ليست علاقة بين لاعب ومدينة، بل علاقة بين جماعة بشرية وإله. جعلت نابولي من مارادونا يوم جاءها في ثمانينيات القرن الماضي يشارك القديس جينارو، حامي المدينة، في المكانة. ولعل من شاهد فيلم باولو سورينتينو "The Hand of God" (يد الله) يرى تلك الحظوة واضحة. علينا ألا ننسى أن العنوان نفسه مأخوذ من جملة لمارادونا.

بدأت عشقًا بلا حدود، ولهًا، تأليهًا. النابولييون عبدوه لأنه خلّصهم من العار، من كل العنصرية التي كانت ترمي بها مدن الشمال الإيطالي الغني على نابولي، إذ لطالما قالوا "نابولي مجرور قذارة إيطاليا". ماردونا الذي قاد فريق المدينة إلى الفوز في الدوري الإيطالي، وفي أوروبا، متحديًا كل العنصرية التي تصبها مدن الشمال تجاه المدينة الجنوبية، ومع ذلك كله، انقلبت العلاقة كرهًا فيما بعد، حين لعب مع فريقه الوطني، الأرجنتين، وفاز على إيطاليا. حدث ذلك بالتزامن مع غرقه في مستنقع المخدرات. فهل راح يؤلف حياته مثل روائي لتكون على هذا النحو الشكسبيريّ؟ لا يمكن استبعاد ذلك.

مباراته الفارقة هي التي سحق فيها الفريق الإنجليزي في ربع نهائي مونديال 1986، إذ شهدت تسجيل هدفين منه، الأول بيده فيما أوحى للحكم أنه سجّله برأسه، والثاني أسطوري لأنه انطلق من منتصف الملعب ورقّص نصف الفريق الإنجليزي، ثم رقّص الحارس، ثم وضع هدفًا كمن يدق جرس كنيسة بين جبلين، مانحًا الصدى قوة تدميرية للجبلين اللذين يحتضنانه.

كثيرًا ما عدّ المحللون هدفه الثاني الأجملَ في القرن العشرين، وثمة من يراه بمثابة كفّارة عن الاحتيال في الهدف الأول، وتظل الدهشة ملازمة لنا كلما عرفنا أن الجماهير تحبّ الهدف الأول، بل يعدونه الأقوى والأنصع في تاريخ الكرة، مع أنه ضدّ مبدأها، لأنه أكثر من هدف في لعبة، إنه إهانة عالمية لإحدى أكبر قوى العالم.

في فيلم سارنيتنو سابق الذكر، يصرخ العم اليساري بخشوع أمام الشخصية الرئيسة: "إنه ينتقم لشعب الأرجنتين العظيم، المقموع من الإمبرياليين الحقراء في جزر فوكلاند. إنه هدف عبقري. إنه عمل سياسي. إنه ثورة". ثم يضيف: "إنه يهينهم".

أمير كوستاريكا في بداية فيلمه الوثائقي عن ماردونا قال: "لكم هو عجيب أن كوكب الأرض لم يخرج عن محوره عندما قفز أكثر من مليار شخص في اللحظة نفسها، التي احتفلنا فيها بهدف مارادونا ضد إنجلترا في كأس العالم في المكسيك. الأرض واصلت رحلتها غير المنقطعة حول الشمس لأنها كانت قفزة للعدالة. حتى الله نفسه تضامن في هذه الحالة، فالهدف الأول ضد الإنجليز أُحزر بيد اللاعب بالرغم من أنها بطولة لكرة القدم. تلك إحدى اللحظات النادرة عندما انتصر بلد غارق في ديون صندوق النقد الدولي على أحد حكام العالم".

أُخذ الهدف على أنه ثورة لأنه جاء بعد سنوات قليلة من حرب جزر الفوكلاند، الحرب التي خاضتها بريطانيا ضد الأرجنتين، مع أن الجزر تابعة للأخيرة منطقيًا. لقاء الفريقين في تلك المباراة بدا استكمالًا لتلك الحرب، وكتابة الفصل الذي لم يُكتب منها، وهو انتصار أصحاب الجزر على الأسطول الإنجليزي في عهد مارغريت تاتشر. وهذا ما فعله مارادونا بشكلٍ هزليّ وساخر في هدفه الأول، وثوريّ في الثانية، ولأجل هذا أحبّه الناس وسيحبونه.

لدى مارادونا إجابتان شهيرتان حول هذا الهدف، الأولى حين اعترف أنه هدف باليد، لكنه بجزء منه برأسه، والجزء الآخر بيد الله. وفي إجابته الساخرة الثانية قال إنه مثل أن تسرق محفظة سائح إنجليزي وتركض.

يقول إدواردو غاليانو : "ألحق الإهانة بالسلطة، فقد تمادى بالكلام، وهذا سلوك له ثمنه، والثمن يُدفع نقدًا ودون حسم. وقد وفّر لهم مارادونا نفسه الذريعة بميله الانتحاري لتقديم نفسه على طبق لأعدائه الكثيرين"

صعود النجوم وهبوطه يستحق أن يُفهم، ولهذا نحتاج أن نعيد رسم بعض الأحداث لنقف عند النقاط المفصلية في هذه السيرة.

ذهب مارادونا إلى نابولي عام 1984، أي في السنة الرابعة والعشرين من عمره، ووقتها كان فريق المدينة، بل والمدينة نفسها، محتقرَين من فرق ومدن الشمال، بالتالي بدت كل مباراة له صراعًا مع العنصرية التي تتجلى في أغاني الجمهور وشعارتهم وشتائمهم، وفي عناوين الصحف الشمالية أيضًا. منها مثلًا هذه الأغنية التي يوردها إدواردو غاليانو في كتابه "كرة القدم بين الشمس والظل":

"يا للرائحة الكريهة

حتى الكلاب تهرب

النابوليون قد وصلوا

آه للملونين، للمُزَلزلين

لا يمكن حتى للصابون أن ينظفهم.

نابولي أيتها البراز، نابولي أيتها الطاعون

أنت عار على إيطاليا كلها".

بسبب أقدام هذا الفتى الأرجنتيني تغيّر الوضع. حصل الفريق على أعلى الدرجات. وأغلقت العنصرية فمها القميء بسبب الهزائم التي أثقلها بها. لكن في الوقت ذاته ازدادت حمأة تقديس مارادونا. غدا الحامي والمخلّص والمؤلّه.

وفي غمرة الشهرة الممزوجة بالأسطرة، بدأت مافيا المدينة، المعروفة باسم الغومورا، بالتقرّب منه للسيطرة عليه واستخدامه كواجهة لأنشطتها التجارية. ولا يوجد لتحقيق ذلك ما هو أنجع من مدّه بكميات من الكوكايين، الذي تعاطاه من قبل، لكنه في هذا المرحلة غرق فيه، كما غرق بالمقابل في العلاقات الغرامية وهدايا وأعطيات الغومورا.

وثائقي آصف كاباديا يضع سردًا منطقيًا لهذه المرحلة. بحلول عام 1986، ومجيء مونديال المكسيك، الذي ذهب إليه مع منتخب بلاده، بدأ ينتقد توقيت المباريات التي تجري في وقت اشتداد حرارة الشمس، معتبرًا أن الفيفا اختار توقيتًا مناسبًا للبثّ التلفزيوني في أوروبا، إلى جانب غيرها من المشاكسات، ومع العودة إلى حياته الإيطالية مجددًا وجد أنه استنفد أسباب البقاء وبدأ يفكّر بالمغادرة، لكن من الذي سيسمح له بذلك؟ نادي نابولي أم الغومورا، وكلٌّ منهما يطمح لمزيد من الاستثمار فيه؟ فغرق أكثر في المخدرات. مع عدم التوقف عن إطلاق التصريحات التي تزعج الجميع.

لهذا حين جاء موعد مونديال 1990 في إيطاليا جاءت معه فرصة الانتقام، أو ربما إعادة التأهيل، وذلك عبر اختيار قيام مباراة نصف النهائي بين الأرجنتين وإيطاليا في ملعب نادي نابولي (صار اسمه ملعب دييغو أرماندو مارادونا بعد وفاته عام 2020). وهنا دعا مارادونا جمهور نابولي للوقوف معه في فريق الأرجنتين ضد إيطاليا ردًّا على عنصرية الشمال الغني. وعلى الرغم من سطوته الشعبية، وقفت الجماهير مع فريق بلدها الذي هزمه وأخرجه من المسابقة مذلولًا، فبدأ التغير، الحب راح يصبح كرهًا، والتقديس مضى في طريق التشيطن، وبدأت رحلة سقوط البطل. راحت الصحف تترصّد فضائحه، والشرطة تراقبه وتفتش منزله بحثًا عن المخدرات، ورفعت المافيا يد الدعم عنه، فمن خان من؟

في السنة التالية 1991، جاءت عقوبته الأولى بإيقافه عن اللعب في نابولي بعد ثبات تعاطيه الكوكايين، وفي العام نفسه قُبض عليه في بوينس آيرس لحيازته كمية من الكوكايين، وجرى تصوير عملية الاعتقال تلفزيونيًا، في سياق انتقام نظام بلاده منه نظرًا لموقفه السياسي المعارض. بعد نهوضه من جديد، وإيصال منتخب بلاده إلى مونديال 1994، ظهرت فضيحة مدوية جديدة بعدما ظهر في مباراتين كاسحًا وقويًّا كما في أزمنة المجد، والتهمة التي أنهت مسيرته الكروية هي تناوله المنشطات.

يقول عنه إدواردو غاليانو في الكتاب المشار إليه سابقًا: "ألحق الإهانة بالسلطة، فقد تمادى بالكلام، وهذا سلوك له ثمنه، والثمن يُدفع نقدًا ودون حسم. وقد وفّر لهم مارادونا نفسه الذريعة بميله الانتحاري لتقديم نفسه على طبق لأعدائه الكثيرين، وبتلك اللامسؤولية الطفولية التي تدفعه إلى الوقوع في أي فخ يُنصب له في طريقه".

مارادونا مزيج مأساويّ من موهبة استثنائية وإرادة ضعيفة، في عالم من الاستغلال والفساد والمكائد، أراد جميع من فيه استغلاله لمكاسب مالية أو سياسية، إلى جانب أنه جاء مع التحولات الكبرى في عالم كرة القدم مع مطلع ثمانينات القرن الماضي

هل مارادونا ثوريّ فعلًا؟ سؤال لم يحصل على إجابة حاسمة رغم كل المقالات والكتب والأفلام التي وضعت عنه. ربما قام بأفعال ثورية، لكنه ليس ثوريًّا. ربما يحبّ الثورات والثوريين، لكنه ليس ثائرًا بالمعنى الذي يضعه إلى جوار زملاء له في الملاعب مثل سقراط البرازيلي. كيف يكون كذلك وهو المغرّر به من المافيا؟ وكيف يكون معارضًا سياسيًّا في بلاده في الوقت الذي كان فيه صديقًا لرجل الأعمال والسياسي الإيطالي سيلفيو برلسكوني؟ وكيف يستقيم أن يضع وشمًا لجيفارا على ذارعه إلى جانب تقديمه العديد من الدعايات الإشهارية لشركات رأسمالية مثل كوكاكولا؟

هو أقرب إلى شخصية روائية أكثر منه إلى ثائر، كما يحبّ هو ومعجبوه. إنه محاكاة واقعية لشخصية الكولونيل أوريليانو بوينديا في "مائة عام من العزلة"، ذلك الذي اعتقد أنه يملك طاقات تنبؤ لأنّ كثيرًا مما قاله أو فكر فيه تحقّق، والذي خاض حروبًا لسنوات عديدة ونجا من محاولات كثيرة لاغتياله، لكنه بعدما فقد الأمل وقّع السلام مع خصومه المحافظين، وتفرّغ لهواية صنع الأسماك الذهبية في ورشته. السحريّ في قصته أنه أنجب 17 ابنًا من نساء غير معروفات، وجميعهم حملوا اسم أوريليانو. لكنهم قتلوا على أيدي قتلة مجهولين، قبل أن يصل أي منهم عامَه الخامس والثلاثين.

الشبه أن مارادونا خلّف وراءه عددًا كبير ًا من الأبناء اللاشرعيين، وخلال حياته القصيرة رفض الاعتراف بأحد غير ابنتيه، لكنه في سنواته الأخيرة عَدَل عن ذلك وراح يعترف بهم ويعيد الاعتبار إليهم، حتى بلغ العدد المعلن عنه ثمانية أبناء من بلدان مختلفة. نُسبَ إلى إحدى ابنتيه أنها علّقت ساخرة على تويتر بالقول إنه يحتاج إلى ثلاثة فقط ليشكّل فريقه الخاص.

مارادونا مزيج مأساويّ من موهبة استثنائية وإرادة ضعيفة، في عالم من الاستغلال والفساد والمكائد، أراد جميع من فيه استغلاله لمكاسب مالية أو سياسية، إلى جانب أنه جاء مع التحولات الكبرى في عالم كرة القدم مع مطلع ثمانينات القرن الماضي، لهذا ظلّ يتنقّل بين صورتي المسيح والمسيح الدجال.

مارادونا شخص من تأليفنا نحن البشر.