04-ديسمبر-2020

دقيقة صمت لروح مارادونا في الدوري الإنجليزي (Getty)

إذا كنت في العشرينيات فهذا يعني أنك شاهدت فوز إيطاليا بكأس العالم في 2006. وعلى الأرجح، تعرف النكتة السمجة، التي تقول إن فوز إيطاليا، يتبعه حرب إسرائيلية على لبنان (2006، 1982). الحروب متواصلة بلا كأس، وأمام العالم.

وكما يقول سورنتينو، كلهم على حق. حتى مارادونا نفسه، لم يرد أتباعًا لنفسه. صارت له كنيسة، ولكنه لم يرد أتباعًا

وإذا كنت في الثلاثينيات، فهذا يعني أنك شاهدت زين الذين زيدان وهو ينطح ماتيرازي، فيتحول فجأة في الإعلام الفرنسي التطبيلي إلى زين الدين "العربي"، بعدما كان "زيزو" في 1998 "بطلًا قوميًا فرنسيًا". وإذا كنت أكبر من ذلك بقليل، فهذا يعني أنك شاهدت مارادونا. بالتالي، ستحزن، وستعجز عن تفسير الحزن. هذا ما يحدث عادةً عندما يموت الأشخاص الذين تحبهم فجأة.

اقرأ/ي أيضًا: كرة القدم تفتقد أيقونتها.. رحيل دييغو أرماندو مارادونا متأثّرًا بأزمة قلبيّة

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، عرفت البشرية ثلاثة أحداث ثقافية، يمكن الاعتراف بها كأحداث ذات معنى.

1-   قصيدة ناظم حكمت الشهيرة، التي حملت عنوان "مراسم الجنازة".

2-   روجر واترز وهو يزجر بحزنٍ رهيب: The grass was greener.

3-   هدف دييغو مارادونا بيده افي مرمى المرأة الحديدية.

ستقرأ في مكان ما، أن دييغو كان مع الاستبداد. وسيحاكم بتهم كثيرة، منها أنه ليس آلان باديو، وأنه لم يفسّر للعالم موقفه من حركة Me Too، أو يقدّم شروحًا في الديموقراطية بعد نهاية المباريات. سيخرج من يقول أيضًا، مالنا وماله. أرجنتيني. لدينا أبطالنا. لماذا نتبع أبطالًا آخرين. وكما يقول سورنتينو، كلهم على حق. حتى مارادونا نفسه، لم يرد أتباعًا لنفسه. صارت له كنيسة، ولكنه لم يرد أتباعًا. مارادونا ليس شخصًا، وليس أكثر من ذلك، وليس أقل من ذلك. مارادونا حدث. مثل التحرير، مثل تظاهرة نقابية منتصف الستينيات. مثل مغيب الشمس على الشاطئ، في صُور وحيفا بالتوقيت نفسه، وبعد ساعة في صقلية ونابولي ومرسيليا. مثل نكتة جيدة على الكورنيش، أو فوز بورق اللعب في نهاية سهرة الثانية فجرًا. صيد ثمين في شباك قديمة، برنامج قديم قرروا إعادة بثه فجأة، أو صديق تلتقي به في حديقة (فلنقل في مقهى، لأن الحدائق توشك على الانقراض). أحداث. مارادونا مثل الانتفاضة. تندفع بقوة، نندفع خلفها. نحمل رايتها في اللحظة المناسبة، نحمل أحجار الأرض، من الأرض، ونصوّب عاليًا. ثم نجلس ونتذكر، نبتسم، وننتقد، نضحك بصوت مرتفع، نندم لأننا لم (...) ولأنه كان يجب أن (...) لكن في النهاية، حدث ما حدث. ما كان يجب أن يحدث.

ذلك الهدف، تلك اليد. استكمال النظرية الكلاسيكية عن فوكلاند، أي صعود العيون فوق الجميع، ونزولها في لحظة فرح. يجب أن ينسحب مارادونا من تلك الصورة. أن يتوقف عن التسلل. الآخرون لن يتوقفوا عن التسلل إلى صورته. أن يحاكم كما يحاكم لاعبو كرة القدم، عندما كانت اللعبة جيدة، وكانت الملاعب رثة، لأن المكان الفعلي للصلاة ليس المذبح، إنما باحة الكنيسة: المدرجات. كانت المدرجات نضرة، وصار الحديث عنها مملًا كمباراة بلا جمهور، تقوم جوقة من المحللين بالتعليق عليها وتفسيرها للمشاهدين. مارادونا ليس بحاجة إلى تحليل: ظاهرة.

مارادونا Passed the ball.

مارادونا Passed away.

في المرة الأولى، نعرفه جيدًا. نسمعها بصوت المعلٍّق الإنجليزي في 1986، وهو يتوقع ويفشل. لا يمرر، ولا يصنع، ولا يهتم لقصيدة محمود درويش، ولعدد المشاركات على فايسبوك، عندما سيموت بسكتة قلبية بعد 38 عامًا. نسمعها بصوت المعلّق الإيطالي، أوائل التسعينيات، خارجة من مقهى على أطراف نابولي. صوت لا يكبر، لكن يتعب، يتراجع، يجفو.

الشتائم أحيانًا أهم من الأوراق البحثية، والشوارع دائمًا أهم من الجامعات

الاشتراكية الحالمة (تقرأ صوت عذب مع المقدمة الموسيقية لـ High Hopes لفرقة Pink Floyd الغنية عن التعريف). رفيق الرفيق فيديل أمل الفقراء والمهمشين وأبناء الضواحي. عدو الرأسمالية المتوحشة. مارادونا ليس كل هذا. إنه مجرد لاعب كرة قدم، كان يعرف كيف يبكي عندما يخسر، ويجعلنا نبكي، عندما نخسر. ليس مهمشًا، لأنه خرج إلى الواجهة. المهمشون ليسوا لطيفين دائمًا، وهم بشرُ مثلنا، من لحم ودم. مارادونا حدث من لحم ودم. مارادونا حزن بعد فرح. حدث من الأحداث التي تحدث، رغم أنف النخب، الذين يقولون للعاديين ما الذي يجب أن يفعلونه وكيف يجب أن يفعلونه. النخب، الذين لا يحملون أعلام الأرجنتين وإيطاليا، لأنهم يعتقدون أنهم أكثر ذكاءً من الجميع، وأن خدعة القوميات لم تنطل عليهم وحدهم. النخب، حتى الذين يتسمون باللطف منهم، الذين يدافعون عن الهوامش والطبقات، ولا يمكنهم أن يتخيّلوا أهواءً غير أهوائهم ومشارب غير مشاربهم، فلا يفهمون لماذا يحبّ الناس مارادونا وميسي ومالديني، بينما يتقبلون ويفهمون أن يحبّ الناس سياسيين ورجال دين ومحللين تلفزيونيين (تكون موهبتهم الوحيدة غالبًا هي النعيق). الطبقيون الذين يتحدثون عن الطبقات. الذين يتذمرون من النخبوية وهم نخبويون إلى درجة تمنعهم من الجلوس مع أقاربهم، لأن هؤلاء لم يتسن لهم قراءة ما بعد البنيويين والاطلاع على الموجة الثالثة وكل هذا الهراء.

اقرأ/ي أيضًا: الأسطورة مارادونا.. الحياة الصاخبة لـ"الطائرة الورقية الفضائية"!

الأكاديميون، ليس كلهم طبعًا، لكن تحديدًا الذين ينسون من أين أتوا/ يأتون، ولا يعرفون إلى أين يذهبون، ويصابون بكآبة مفتعلة سببها الوحيد عدم قدرتهم على مشاركة الفرح مع آخرين. الشتائم أحيانًا أهم من الأوراق البحثية، والشوارع دائمًا أهم من الجامعات. دييغو – قد يكون - أهم من معظم المفكرين في القرن العشرين. صوت ما لا يهتم بالتفكيك والتأويل يخرج بحزن رهيب من ذلك المقهى في نابولي ويؤكد ذلك: "لقد رأيت مارادونا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

المجد لمارادونا.. عاشت الأرجنتين

مارادونا في حمص