18-يوليو-2021

كاريكاتير لـ سجاد رفيع/ إيران

تحيل كلمة الجماعات الذهن تلقائيًا ليفكر بالطبيعة، وتخطر له صور تلك القطعان السارحة في السهوب أو في الأوكار، بدرجات تنظيم متفاوتة، وليست كلمة القطيع هنا شتيمة ـ كما درج ـ بل هي توصيف طبيعي لعملية تطورية راكمتها الحياة عبر ملايين السنين.

تعيش الحملان في قطيع، لا تستطيع غير ذلك، هذا مفهوم من وجهة نظر الطبيعة، فهي كائنات بلا أنياب، وسرعتها محدودة

تعيش الحملان في قطيع، لا تستطيع غير ذلك، هذا مفهوم من وجهة نظر الطبيعة، فهي كائنات بلا أنياب، وسرعتها محدودة، وقرون ذكورها لها وظيفة جمالية أكثر مما هي قتالية، وفوق كل ذلك لحمها لذيذ، إذا فهي مستهدفة من كثيرين، وتواجدها معًا يقلل من تبعات ضعفها.

اقرأ/ي أيضًا: لعلّ الجواب عند ماسلو

لكن الذئاب أيضًا تعيش في قطعان، رغم عدم حاجتها البيولوجية لذلك. حنين جيناتها يقودها، لكنها تترك لكل فرد منها إن ينفر وحيدًا إذا ما اشتهى الصيد بمفرده، وأن ينزوي في مغارة إذا ما تعرض لجرح، وتتركه ليشفى كما يشاء.

معظم الطيور لا تنتظم في جماعات إلا حين تهاجر. وحين تبلغ محطة الوصول تعود للتفرق، يأخذ كل ذكر أنثاه إلى عشٍ منزوٍ، يغني لها وينجبان طيرين جديدين، سيعرفان بالغريزة أنهما سيحتاجان الجماعة عند الانتقال من البلاد.

في عالم الحشرات المتقدمة يسود نظام صارم يضبط مهام الأفراد بما يخدم الجماعة وسيدة الجماعة، لا معنى لأية خصوصية هناك، الانتحار في سبيل الجماعة فعل نبيل ومشرّف، العمل الدؤوب والمتكرر إلى الأبد هو المهمة المقدسة وهو المعنى وسبب الوجود.

لا أحد يريد ان يكون نملة نشطة تجوب الحقول بحثًا عن حبة حنطة، منذ شروق الشمس وحتى المغيب، ودعاة الجماعات المنظمة، من يريدون نقل تنظيم قبيلة النمل إلى قبائل البشر، هم أولئك الذين يرون أنفسهم ملكات، ويريدون تطويعنا لتنفيذ ما يخطر لهم من إبداع، ولا بأس أن يموت البعض منّا في سبيل ذلك، أن يشقى البقية، فدائمًا ستجود عقولهم بمزيد من الأفكار.

لم يسبق أن قرأنا أو سمعنا خطابًا أو شعرًا أو فلسفة تقول: أحلم أن أكون نحلة نشطة أجمع الرحيق دون كلل، أحتاج فقط ملكة تتحكم بي وتوجهني.

درَسَنا العلماء بوصفنا حيوانات، تنطبق علينا معايير الطبيعة، ووجدوا أننا من تلك الحيوانات التي تعيش في مجموعات صغيرة. رجل وامرأة وبضعة أطفال في كهف، يتجاورون مع بضعة كهوف مشابهة أخرى، وبعدد تضبطه حاجات الصيد والقدرة على التواصل. ويقدّر الأنثروبولوجيون أن 100 150 فرد ظل هو العدد الأقصى الممكن للاجتماع البشري لسبعين ألف عام، ولم يبدأ بالتغير حتى تدجين القمح، والذي اصطلح على تسميته:  الثورة الزراعية. 

بطبيعتنا نشبه الضباع أو الثعالب، وانتظامنا في جماعات جاء في مراحل متقدمة من تطورنا، وبالتالي فهو أمر طوعي، نتج عن الحاجات: تحسين عملية الصيد، حرث الأرض وحصاد محصولها، وهكذا حتى صياغة عقود بيع المشتقات المالية.

لا خيار للنملة في المملكة التي تنتمي إليها، ولا في العمل الذي تؤديه لخدمة هذه المملكة، لكننا نحن البشر قادرون (غالبًا) على اختيار وتغيير البلد والحي والمهنة والأيديولوجيا والإيمان وتراكب الأسنان ونادي كرة القدم واللغة وحجم الأنف ولون البشرة والذائقة الموسيقية.

وحتى الجماعات الأعمق، مثل الانتماء العرقي والقومي والديني، تركت لنا الحياة فرصة معقولة لتغييرها، على الأقل للتخلي عنها، أو التخفف من أثرها علينا، وغالبًا ما نتمكن من ذلك بمجرد إجراء تغيير بسيط مثل الانتقال من المكان، أو الانتظار قليلًا في الزمان، أو صمّ الأذنين ببساطة. 

أهم شعراء الزنوجة في ستينات القرن العشرين كانت امرأة بيضاء، ومؤسس فكرة تفوّق ألمانيا كان نمساويًا، وشارك كرد وتركمان وسريان في تأسيس الأحزاب القومية العربية.

وحتى على المستوى الأكثر طبيعية، فانتماؤنا جميعًا للنوع الإنساني بمواصفاته البيولوجية، لم يمنع البعض منّا عن أن يكونوا نباتيين، او لا جنسيين، وبالطريقة نفسها أن ينتظموا في جماعات، ويختصوا بالتنظير لذلك، وبلوم الآخرين المختلفين، وتجريمهم.   

نحن أفراد، هكذا أنجبتنا الطبيعية، وانتظمنا في جماعات حين احتجنا ذلك، وخيارنا الطوعي في الانتظام ضمن جماعات هو التعبير الأعمق عن فرديتنا

نحن أفراد، هكذا أنجبتنا الطبيعية، وانتظمنا في جماعات حين احتجنا ذلك، وخيارنا الطوعي في الانتظام ضمن جماعات هو التعبير الأعمق عن فرديتنا، لأننا دخلناها طوعًا، ولأننا تركنا لأنفسنا ـ مع دفع بعض الأثمان بالطبع ـ خيار التراجع عن ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: إذا ما احتجت بلدًا فلفّقه

لو لم نكن في الأصل أفردًا، فلم نصّت قوانين الجماعات بوضوح وشدّة وقسوة على عقوبة مغادرتها؟ ولماذا اختارت أقذع الشتائم لوصف من يتجرّأ على ذلك؟ فلا فعل أكثر فرديةً من مغادرة الجماعات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حقل ألغام

كلّنا على هذه الطريق