04-يوليو-2021

من جدارية لـ دييغو ريفيرا/ المكسيك

كل الأوطان مصطلحات، كل الأوطان ملفّقة. 

هذه ليست شتيمة ولا موقفًا عدميًا، ولا متعاليًا، هذه حقيقة علمية بسيطة، ليس فيها شبهة خيانة، ولا حتّى تحتاج عتابًا.

فكل اجتماع بشري يزيد عن مئة وخمسين فردًا يحتاج لتلفيقٍ من نوع ما، تواطؤ جماعي لا يستقيم دون تعطيل جزء من فص التفكير النقدي في الدماغ، تحديدًا في تلك المنطقة الرمادية التي تنتمي للطبيعة وتشبهها.

نرى بأم العين كيف تتبخر الحكايات التي قامت عليها بلدان كثيرة، وتتلاشى أمام أول لحظة حقيقة

مع عائلة كبيرة بهذا الحجم، يستطيع البشر أن ينخرطوا تمامًا، ويخلقوا تعاونًا فعّالًا ومفيدًا. أكثر من ذلك يحتاجون لتسويات أعقد قليلًا مما فطروا عليه، وأكذب قليلًا من الطبيعة البسيطة.

اقرأ/ي أيضًا: في الأردن.. وصفات غير ديمقراطية للإصلاح السياسي

قد تنفع حكاية، فكرةٌ، أملٌ، وهم، دم أجداد، بطولات قديمة حقيقية أو زائفة، رابطة قرابة بائدة، وعد بنصر قريب، معجزات أتاها من ماتوا منذ زمن طويل، إغواء بثروة قادمة، تضخيم نداء الحاجات، تسويق جيد لفكرة المصلحة، اختلاق متقن لروابط جينية أو عقائدية. 

لا فرق في ذلك بين دولة وطنية متحقّقة، أو دولة وطنية في طور التشكّل، أو في طور الحلم، رابطة قومية، رابطة دينية، لتكن ما تشاء، لكن لا يمكن الاستمرار بعيش الناس معًا ما لم يتواطؤوا على حكاية ما. 

تمّ اختلاق الولايات المتحدة على تلك الكذبة المركزية التي لا تبهت ولا تتلاشى: الغد أفضل، وكل شيء سيستمر بالتحسن، الأسهم سترتفع، وكل الخطوط البيانية رؤوس أسهمها متجّهة للأعلى، أنفق الآن، اشتر كل ما تشتهيه، ستسدد فيما بعد حين تتحسن الأمور، وعلى هذه الكذبة أصبحت تلك البلاد الشاسعة الهائلة هي الموطن الكبير للأحلام الصغيرة. 

ترجم النازيون جملة "شعرية" لنيتشه إلى لغة العامة، فصار معناها: نحن السوبرمانات الأكثر تفوقًا مسؤولون عن صالح البشرية، علينا أن نخلّصهم من شوائبهم ونقودهم نحو المستقبل. 

خطر لبطرس الأكبر أن أفضل طريقة للدفاع عن (دوقية) موسكو في وجه أطماع العالم، هي جعلها بعيدة عن متناول أيديهم، فصدّقه الموسكوفيون، فتوسعت روسيا وتوسعت طيلة 300 عام، ليصبح على الغزاة المتربّصين أن يحتلوا 23 مليون كيلومترًا مربعًا كي يصلوا إليها. 

اعتد الفرنسيون بلغتهم وثقافتهم الرفيعة، وصنعوا منها حكاية. اقتبس الترك والفرس ما فعله الأمويون والعباسيون والفاطميون وسواهم، وحملوا رايات الإسلام المتباينة بوصفها حوامل لإعادة بناء الإمبراطوريات المطمورة. اختارت كندا سمة اللطف، اقتطعت لها عشرة ملايين كيلومترًا مربّعًا، لا يصدر في ليلها ضجيج، ولا تُلقى في شوارعها أعقاب سجائر.   

نوّع هؤلاء جميعًا، ونوّع غيرهم، واستمروا باختلاق الروابط والأسباب، وعلامات التفوق ليستمر الناس بالعيش معًا، وضعوا القوانين، ومؤسسات تسهر على تطبيقها، وحدّثوا كليهما باستمرار. 

لسنا استثناءً في هذا المشرق، ونحتاج كغيرنا للماء والغذاء والحكايات. اختلقنا الكثير منها، لم تكن كلها أكاذيب جيدة، ولم تكن متقنة بشكل كافٍ. ولذلك كانت تنهار بأسرع من المعدل العالمي بقليل، لكننا لم نيأس، وواصلنا اختراع المزيد منها. حاولنا حشوها قسرًا في فم الجماهير، جعلناهم يغنون لها خوفًا لا طربًا، ومع ذلك لم نوفق كثيرًا. 

نحتاج كغيرنا للماء والغذاء والحكايات. اختلقنا الكثير منها، لم تكن كلها أكاذيب جيدة، ولم تكن متقنة بشكل كافٍ. ولذلك كانت تنهار بأسرع من المعدل العالمي بقليل

فلم تصمد الشعاراتية القومية سوى بضعة عقود، وذهبت خطة استحضار سيرة "السلف الصالح" إلى حارات قصيّة ضيقة، ولم تحظَ الحكايات المترجمة (الأممية، التفوق العرقي، تلازم الليبرالية الاقتصادية مع الليبرالية السياسية…) بالاتساع الأفقي الكافي. 

اقرأ/ي أيضًا: أُمِّية الطغيان

لدينا أكثر من نموذج حار الآن، نرى فيه بأم العين كيف تتبخر الحكايات التي قامت عليها بلدان كثيرة، وتتلاشى أمام أول لحظة حقيقة، ولن يغير من المسار شيئًا ما يجري من محاولات يائسة هنا وهناك للبقاء في طور الحكايات المحتضرة. 

لست أحمق ولا شاعرًا لأدعو إلى تبادل قول الصدق على الملأ، ولا لأوجّه دعوات الحب والوئام والسلام، وأعرف أن الأمور لا تجري هكذا، وأننا لو بدأنا اليوم بقول حقائق الأوطان كما هي، فلن يأتي السبت القادم إلا ونحن ننهش بعضنا كالضباع. 

نحتاج أن نختلق بلدانًا، لنجعل منها أوطانًا. وبواقعية فجّة: نحتاج أن نُحسن اختلاقها، أن ننتقي لها الحكايات الجيدة القابلة للتسويق، والمناسبة لتكون موضع تواطؤ. 

وليس لدي من اقتراحات سوى العودة لخلف خطوط الحكايات المتهاوية، والبحث في الحكايا القديمة عمّا يصلح ليكون روابط متجدّدة، قد نعثر عليه في الأغاني، في الأمثال، في أصول الكلمات، في سيرة الأنهار، في تعرجات النقوش على الحجارة، وعلى وجنات النساء الموشومات، وعلى تلك التفاصيل المتوارثة دون سبب، فلعل مخيلتنا توفق أيضًا باجتراح سبب. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

حقل ألغام

كلّنا على هذه الطريق