08-مايو-2018

كهوف لاسكو في جنوب غرب فرنسا

أثناء تجوالي في المكتبة العمومية وقعت على كتابين تاريخيين لمؤلفين عربيين مسلمين. أحدهما قدّم دراسة حول تاريخ شمال افريقيا، وخلال المقدمة رأيت أنه دائمًا ما يشير إلى ما قبل التاريخ ثم بدلًا من أن يحدثنا عن هذه الفترة نجده يسرد علينا تاريخ الحضارة الرومانية، فاكتشفت أن الباحث للأسف لا يفرق بين ما قبل التاريخ وما قبل الميلاد.

ما نعرفه عن تاريخنا اليوم كبشر لا يكاد يتعدى ثلاثة آلاف سنة مضت

أما الكتاب الثاني فقد كان بحثًا أنثروبولوجيًا عن تاريخ العرب في المغرب العربي، ومع الأسطر القليلة التي اختزلت التاريخ اكتشفت أن الباحث القدير قد اعتمد على قصة نوح لتتبع خيط الانسان القديم ثم منتهيًا بنتيجة أن الشمال الأفريقي من عرق عربي أصله من يافث. علمًا أن فكرة الأعراق قد اندثرت مع الثورة التي أحدثها علم الوراثة. فلا توجد جماعة بشرية متميزة عن الأخرى في زمرة الدم أو الخصائص الأخرى التي تشكل الجينات.

اقرأ/ي أيضًا: في كشف عورات الوهم

خاب ظني كثيرًا وأنا أعيد الكتابين إلى الرف من جديد، بعد أن نفضت يدي من الغبار الذي تراكم فوقهما بعد عزوف القراء عن المطالعة. وقد تبادر إلى ذهني سؤال عن مكانة العلم الحديث في حياتنا ومدى أهميته لنا ليس كقراء عاديين وإنما كأكاديميين وباحثين؟ أين مكانة الأنثروبولجيا وعلم الوراثة من علومنا؟ لماذا ندير ظهورنا لكل الاكتشافات التي تظهر في الساحة العلمية رغم أنها تنزع الغشاوة عن أعيننا لتقربنا من الحقيقة وتعرفنا على ذواتنا كبشر. من حقنا أن نطرح السؤال. من أين أتينا؟ وكيف أصبح العالم على ما هو عليه الآن؟

هناك تساؤلات لم يعد يجيب عنها أي نص قديم، ولا أية أسطورة تمكنت من عقولنا لمئات السنين. لقد سقط قناع الوهم أمام الحقائق. فإن ما نعرفه عن تاريخنا اليوم كبشر لا يكاد يتعدى ثلاثة آلاف سنة مضت، هي كل ما نعرفه عن تاريخنا الطويل .في البدء لم تكن هناك سوى مجموعة واحدة من الصيادين وقاطفي الثمار، وكانت صغيرة جدًا إلى حد أنها كانت معرضة للانقراض وهذا ما يجعلنا ناجين من التاريخ. فقبل 100.000 سنة استوطن الإنسان العاقل homo sapien الأرض بعد أن تخلى عن الترحال وبدأ الزراعة وتربية الحيوانات، وما نجم عنها من ملكية وطبقية وعدم المساواة التي مهدت لظهور المجتمع.

عرض هذه المعلومات على القارئ ليس هدفها تقديم درس في الأنثروبولوجيا، ولا لدحض نظرية الخلق – فليس المجال يسمح لذلك- وإنما أردت أن أبيّن أهمية تاريخنا ولماذا علينا أن نهتم به ونوليه عنايتنا كمجتمع لأن الحضارة لا تنتج إلا من خلال تراكم المعرفة التي خلفتها الحضارات السابقة، وجهلنا لهذه الحضارات سيجعلنا في مصاف المتخلفين حتمًا. فمن السهل التحكم في شعوب ذاكرتها قصيرة تختصر تاريخها في مجموعة من المؤلفات، كتبها بشر مثلنا في العصور الماضية ممزوجة مع أساطير قديمة حينًا، وعنعنة عبر سلسلة بشرية تحتمل الخطأ في معظم الأحيان، كيف نعرف تاريخ هذه الأرض التي مر على تواجدنا فيها مدة 15 مليار سنة؟ هل نختصرها في هذه الكتب؟ أم نواصل رحلة الاستكشاف التي يقودها العلم بخطى ثابتة من دون مشاركتنا الفعالة؟

لا أخفي أن هنالك قراء يستفزهم مثل هذا الكلام، حتى وإن كنت الآن لم أقل شيئًا عن النظريات التي تعارض المعتقدات الدينية!

إنه لشيء غريزي ومفهوم أن يخاف الإنسان من شيء مجهول، فنحن نشارك جميع الحيوانات ذلك. ولكن بما أننا نملك القدرة على استنباط النتيجة من الحقائق فليس هناك بد من المجازفة. أقول مجازفة من أجل الذين يخافون على إيمانهم من الضياع، وإن كان العلم يعتمد على العقل فقط والإيمان يعتمد على الإرادة وحدها. فلندع هذه الأمور جانبًا ونتحدث عن أقدم الحفريات التي وجدت لحد الآن، وهو هيكل كامل لانسان إركتوس. هيكل معروف لشاب من بحيرة توركانا في أفريقيا وعمره مليون وستمئة ألف سنة، يمثل هيكلًا عظميًا كاملًا من ما قبل التاريخ. ماذا سنفعل بهذا الهيكل إن كان بين أيدينا؟ هناك حلان؛ إما التوجه إلى الفقهاء والبحث عن إعجاز علمي يتوافق مع هذا الاكتشاف ثم الخروج بنتيجة مرضية لتغذية أوهامنا، بأن آدم كان طوله ستين ذراعًا، وأن نوح عاش ألف سنة، وما إلى ذلك من أساطير لا صحة لها في الواقع، أو البحث العلمي والمنهجي داخل المخابر لنحدد بالضبط إلى أي نوع بشري ينتمي، وهل كان هناك تطور بالنسبة للكائن البشري عبر الزمن؟ قد يكون هذا أحد أجدادنا الأقدمين؟ لكن ماذا نفعل بمعتقدنا المخالف لما اكتشفه العلماء؟ كيف سنتصرف إزاء الجديد والمختلف عما نعرفه؟ أعرف الإجابة مسبقًا وأبتسم رغم ذلك.

إنه لشيء غريزي ومفهوم أن يخاف الانسان من شيء مجهول، بل إننا نشارك الحيوانات في ذلك

لا مناص من البحث عن إجابة واضحة، وقد تكون صادمة في أغلب الأحيان وهذا أمر طبيعي عند البشر، بل مستحبّ لأن الدهشة تولد الفلسفة. إن البشر وجميع الثدييات على هذا الكوكب كانوا فيما مضى أقل حجمًا مما نحن عليه الآن، ولا وجود لنظرية حتى الآن تفند ذلك، وهذا راجع إلى أسباب بيئية وجينية يمكننا التفصيل فيها لاحقًا. تخيلوا معي لو حدثنا عالم حفريات عن الأسترالوبيثيكوس أو الهومو هابيليس أجداد الهومو سابيان. هل سنستطيع مناقشة هذه المعلومات بعقلانية وهدوء دون التعرض لموضوع المؤامرة؟ أو الهجوم العدائي ضد الشخص المتدخل بتهمة التهجم على الدين؟ ماذا لو قال أحدهم إن الحقيقة هي ما حدث بالفعل وليس ما نعتقده حقًا؟ وهل نحن مستعدون لتقبل العلم بعقلية متفتحة دون اختزال المعرفة بمجرد التعرف عليها لا للمعرفة الحقيقية بها؟

اقرأ/ي أيضًا: نظرة في تاريخ الطبيعة الذكورية للمجتمع الإنساني

هناك إشكالات عدة تعترض المثقف المسلم عندما يتعلق الأمر بأي بحث منهجي، سواء كان ذلك تاريخيًا أو عقائديًا أو اجتماعيًا. لا نزال نرضخ تحت هيمنة الدوغماتية التي لا تسمح للعقل بتعرية الآليات القديمة، التي لا تزال للأسف مستمرة في توليد تاريخنا الإسلامي المعاصر البائس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حرية الصحافة في الجزائر.. ضحك على الذقون

المانيفستو في ضيافة القرن 21