30-أغسطس-2023
يتباكى كثيرون على ماض مجيد عرفته النخبة الطليعية

(الترا صوت) يتباكى كثيرون على ماض مجيد عرفته النخبة الطليعية

جلس شاعر يساري تائب بين عدد من أصدقائه ورفاقه ومريديه، وبين سيجارة وأخرى كان يشرح لهم ما يجري في العالم، أو بالأدق: كان يشرح لهم العالم. وللتوضيح فالرجل تائب عن الشعر (إذ تحول مؤخرًا إلى مفكر) وليس عن اليسار، أو ربما هو تائب عن اليسار ولكن توبته غير نصوحة.

المهم أن الشاعر سابقًا والمفكر حاليًا توصل، بين ما توصل إليه في تلك السهرة الطويلة، إلى تفسير ما يجري في منطقتنا، ذلك أن "الجماهير الجاهلة، المقيدة بأغلال التقاليد العتيقة والعادات البالية والخرافات الموروثة.. قد مُنحت فجأة وبلا تحضير أو تأهيل، ثمار التكنولوجيا الحديثة، وما الذي سوف تصنعه هذه الرؤوس الفارغة بوسائل الحداثة هذه سوى ما تفعل الآن: تفور وتمور وتغلي بلا ضابط أو بوصلة أو هدف". والحل، أو ما كان حلًا، برأي مفكرنا هو "ضرورة إخضاع هذه الجماهير إلى تأهيل ثقافي تنويري تقوم به النخب المثقفة التي كانت سابقًا طليعة الناس ورائدتهم".

ورجلنا ليس الوحيد الذي يتباكى على ماض مجيد عرفته "النخبة الطليعية"، فعديدون هم الذين يعودون إلى هذه المعزوفة بين فترة وأخرى، ما يثير سؤالًا: في أي زمن كان هذا الفردوس المفقود؟ في أي عصر.. في أي حقبة؟ متى بالضبط كانت النخبة تمشي في المقدمة والجماهير تمشي في إثرها؟

يعمل بعض المثقفين على إدانة الأحداث والوقائع والمستجدات، لأنها لم تأت منسجمة مع أفكارهم المسبقة، بدلًا من أن يقوموا هم بتطوير أفكارهم ورؤاهم وأدواتهم لتغدو أصلح لفهم العالم وأقدر على تفسيره

سُئل محمود درويش، في حوار صحفي، عن أسباب تراجع الشعر، والأدب عمومًا، "عن الدور الريادي الذي كان يضطلع به فيما مضى"، فأجاب: "ولا مرة نستطيع تحديد هذا الدور بالضبط أو كيف يتجلى.. نحن نقرأ لبعضنا البعض ونعتقد أن المجتمع كله معنا. الشعر دائمًا له دور ثانوي لأنه دائمًا، للأسف الشديد، يخص النخبة.. أما القول إن الشعر كالخبز وكالهواء فهو حلم.. حلم أقرب إلى الوهم.. يا ريت!".

وما ينطبق على الشعر والأدب ينطبق على الفكر والتنظير، وما ينسحب على الشعراء والأدباء ينسحب كذلك على المفكرين والمنظرين.

وبالعودة إلى معسكرات التأهيل والتنوير التي اقترحها صاحبنا، فمن، تحديدًا، سوف يتولى تنوير الجماهير؟ النخب اليسارية؟ ماذا سيقولون للناس؟ يحدثونهم عن دكتاتورية البروليتاريا أم عن سبب إخفاقها الذريع؟

وماذا سيقول الطليعيون القوميون؟ سيحثون الناس على الانخراط في حزب واحد وحيد "انقلابي شامل"، يبعث أمجاد الأمة ويعيد إليها رسالتها، أم يشرحون لهم لماذا أدت كل محاولاتهم لإيقاظ الأمة إلى تدهور هذه الأمة ودفعها إلى الوراء أكثر فأكثر؟

وماذا عن نخب الإسلام السياسي؟ هل يقنعون الجماهير بأن العودة إلى الماضي هي الحل، وأن في هذا الماضي دواء كل الأدواء، أم يفسرون لهم لماذا تسبب هذا الحل بكل هذه الكوارث؟

لا يدور الحديث هنا، بالطبع، عن تسخيف دور الثقافة في مجتمعنا، وفي كل المجتمعات، ولا عن تبخيس مطلق لمهام المثقفين وجهودهم، بل هو يتوجه إلى أولئك الموهومين بدور طليعي مزعوم لم يتجسد حقًا على أرض الواقع في أي يوم، والنقد يطول، أساسًا، إدانة هؤلاء للأحداث والوقائع والمستجدات، لأنها لم تأت منسجمة مع أفكارهم المسبقة، بدلًا من أن يقوموا هم بتطوير أفكارهم ورؤاهم وأدواتهم لتغدو أصلح لفهم العالم وأقدر على تفسيره، وكذلك يطول تعالي هؤلاء عن الناس وتحميلهم المسؤولية دون كلمة بالمقابل عن دوائر القرار وأصحاب النفوذ الحقيقي.

وبالعودة إلى سهرة شاعرنا المفكر، فقد كان مرحًا ومتهكمًا بارعًا، إذ روى الكثير من القصص المضحكة التي يتجلى فيها غباء "العامة" على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنه نسي أن يروي قصة أكثر طرافة كان هو أحد أبطالها. فمنذ نحو أربعين عامًا كان يسكن في مدينة صغيرة وينتمي إلى حزب صغير، صغير جدًا، وقرر هو ورفاقه أن يستقطبوا أكبر عدد من البروليتاريا في تلك المدينة، لكنهم واجهوا صعوبة بالغة في العثور، هناك، على أحد ينطبق عليه التعريف الدقيق للبروليتاريا. إلى أن عثروا أخيرًا على معمل جرابات صغير في أحد أطراف المدينة، ولكنهم وقفوا أمام مشكلة غير متوقعة، ذلك أن العاملات في المعمل كن شقيقات صاحبه وبناته. فحار الرفاق في تصنيف هؤلاء النسوة، هل هنّ بروليتاريا أم برجوازية؟ وظلت هذه المشكلة الفكرية مستعصية، حتى جاء انهيار الاتحاد السوفييتي وقدم لهم حلًا جذريًا لها.

يوجد، بالتأكيد، قصص مماثلة عن النخبويين في التيارات الأخرى، ولكنها أقل طرافة، مع أن نتائجها، ربما، كانت أكثر مأساوية.