26-أغسطس-2023
مظاهرة في مدينة إعزاز شمال سوريا (Getty)

مظاهرة في مدينة إعزاز شمال سوريا (Getty)

أكثر ما يلفت في صور الاحتجاجات الواردة من الجنوب السوري، هو الرغبة المتصاعدة في استعادة الماضي وإعادة تركيب مفرداته وسياقه العاطفي على ما يحدث في التظاهرات الاحتجاجية التي تشهدها مدينة السويداء، وبعض مناطق درعا.

تسلل هذا الحنين بسرعة كبيرة ليصير هو الأداة واللغة الوحيدة للتعاطي مع هذه الغضبة. وبالطبع، وجد هذا الحنين إلى الماضي طريقه بسرعة وسهولة إلى أطياف السوريين المشردين في أصقاع الأرض، لتُتَرجم هذه العاطفة بمختلف الأشكال والأساليب، وترسم اتجاهات وأحجام التعاطف والمساندة للمحتجين السوريين على الجغرافيا السورية من قبل أقرانهم في الفضاءات الافتراضية.

ولم تمض سوى أيام قليلة على توسع الاحتجاج، وتبنيه لشعارات شكّلت جوهر البدايات للثورة السورية، حتى بدأت هذه الاستعادات المدفوعة بالحنين، تتجاوز العاطفة وتأخذ شكلًا عمليًا قابلًا للتطبيق، وعدنا إلى وضع تاريخ واسم ليوم الجمعة لضم كل المناطق المحتجة زمنيًا وشعاراتيًا.

لا تختلف سلطة الأسد اليوم عن سلطة الجولاني وقسد، وجميعها سلطات تُبرّر وجودها من خلال تفاهمات مرحلية وآنية تتيح لها فرض نفسها كسلطة أمر واقع

وعاد الاهتمام بـ"فيس بوك" يتزايد، وعدنا إلى صور الهواتف النقالة، والأيدي المرتبكة والمرتجفة، وكأننا عدنا إلى الماضي بالصوت والصورة. وهنا غاب الصحفيون مرة أخرى، وبرز النشطاء، غاب الإعلام، وحضرت الصفحات المحلية، بفارق واحد، أننا في سوريا اليوم، لدينا داخل واحد وخارجان، خارج سلطة الأسد، وخارج سوريا.

فخارج سلطة الأسد، يبدو وضع نقل التظاهرات المساندة للحراك الداخلي أكثر احترافية، وأكثر تطورًا لناحية نضج مفهوم المواطن الصحفي الذي حولته ثورة 2011 ثم الحرب والعديد من الكوارث إلى صحفي معتمد. بينما انفردت محطات المعارضة خارج سوريا بتغطيات مفتوحة وشاشات مقسمة لنقاط التظاهر، وكأننا أمام حدث يحدث في 2023 لكن الصورة تعود لعام 2011.

هذا الإفراط في الحنين إلى الماضي يضعنا أمام أسئلة ربما يمنعنا الزخم العاطفي والتعاطفي من رؤيتها؛ هل نحن مصيبون في هذه الاستعادة؟ هل من الممكن أن يمنحنا استخدام صورة الماضي ولغته العزم الكافي للقبض على مستقبلنا من جديد؟ هل توحي هذه الاستعادة بأن الثورة السورية مستمرة في الأصل، ولم تنته يومًا، وأن هذا الوطن المحطم ليس إلا أضرارًا جانبية حتمية لمسار ثورة التغيير الكبرى؟ هل نحن بحاجة إلى هذه الاستعادة، وبحنين مفرط، لنتجاهل الواقع البائس، وتعقيدات الوضع الإقليمي وتوازنات القوى الدولية والإقليمية على الجغرافيا السورية؟

هل ستمحو العودة إلى نقطة البداية التقسيم والكونفيدرالية المقنعة، ويُعيدنا الماضي إلى مقارعة السلطة بوصفها نظامًا سياسيًا مستقراً؟ هل تمكننا هذه القفزة الطويلة إلى الوراء، من الإجابة عن سؤال الهوية؟ هل كنا سوريين في 2011 أكثر مما نحن اليوم ؟ هل يمكننا هذه المرة أن نستثمر لاستعادة المستقبل؟ إذا كانت هذه الاستعادة تحمل كل هذه التساؤلات، فإذًا لا مناص من الإجابة، أو الذهاب نحو الإجابة ونحن نقفز إلى الوراء بحثًا عن المستقبل.

 

لا شك بأن الدفق الوجداني الذي حملته ثورة آذار/ مارس 2011 مازال قادرًا على مد السوريين أفرادًا ومؤسسات بالعزيمة والشعور بقوة الحق، ومازال قادرًا على التدفق وملء فراغات البؤس والإحباط وانعدام الأفق والشعور بالخيبة من حجم الخذلان الذي يتعرض له السوريون الثائرون أفرادًا ومؤسسات من قبل الدول المؤثرة على صراعهم المحق مع السلطة الأسدية. يمكن لهذه الوجدانية أن تعيد لنا الاعتبار لكينونتنا وصورتنا مجتمعين في وجه الاستبداد، لكن الخلل الذي تمثله عودتنا إلى الماضي بهذا الانجراف العاطفي، هو أننا كنا نقارع سلطة ذات مفهوم سياسي مكتمل، سلطة سياسية مستبدة، نظام سياسي مستبد في مواجهة شعب قابع تحت الاستبداد السياسي ويتوق للتحرر واستعادة مستقبله.

أما اليوم، فقد فوتت علينا سلطة الأسد هذه الفرصة لمواجهة ثانية لأنها انتهت كنظام سياسي أولًا، وانتهت الطبيعة الاستبدادية مع نهايتها كنظام سياسي ثانياً، وبقيت السلطة الأسدية مجردة من أي شكل سياسي يجعلها أهلًا لمواجهة ثورة جديدة أن صح التعبير. فسلطة الأسد هي توأم مضخم قليلًا عن سلطة الجولاني في شمال سوريا، وسلطة قسد في الشرق، وسلطة المصالحات في الجنوب، التي يمتلك فيها الأسد حدًا أدنى من التمثيل الأمني، وهذا ينطبق بالطبع على محافظة السويداء.

هذه السلطات مجتمعة تمثّل المرحلة النهائية من تحلل النظام السياسي في سوريا، وكل هذه السلطات بما فيها سطلة بشار الأسد، تمارس السياسة بالحد الأدنى، وتبرر وجودها كسلطة من خلال تفاهمات مرحلية وآنية كسلطة أمر واقع. البعد السيادي لسوريا بالمعنى السياسي مفقود، وهذا مايجعل من مهمة حدوث ثورة جديدة في سوريا أمرًا في غاية الصعوبة. ولذلك لابد من ثورات محلية تخلع سلطات الأمر الواقع في الشرق والشمال تمهيدًا لحدوث الثورة أو استمرارها بصورة ثورة 2011 بالمعنى الوطني السوري الشامل والجامع، والمؤدي بالضرورة إلى إعادة بلورة مفهوم الوطنية السورية في ضوء ثورة آذار.

في هذا السياق لا ضير من الارتكاز على وجدانية الثورة السورية في إنجاز ثورات متزامنة لا تسقط الحاضر من حساباتها، وتلجأ إلى الماضي وكأنه علاج فعال لكل المشكلات، وسبيلاً وحيدًا نحو المستقبل. لم يدرك الموالون لسلطة الأسد أن حرب بشارهم لم تكن لإخماد ثورة شعبية تستهدف نظامه السياسي، بل كانت تستهدف إخماد أي فرصة مقبلة لأي ثورة على المستوى الوطني. والحل يكون بتفكيك سوريا كوطن، والقبول بسلطة فيها أقصى حد ممكن من الجغرافيا والحد الأدنى من السياسية والسيادة.

إن التشبث بالوجدانية السورية الجامعة التي شكلت ملامحها ثورة الحرية والكرامة، يمكنها أن تكون فاعلة بالمعنى السياسي، إن نجحت في توحيد الجغرافيا السورية، ليس فقط بالمعنى الجغرافي، وإنما بالمعنى الفعلي. هذا الوجدان سوف ينجح كل مرة في إسقاط جدار "برلين" المفترضة الفاصلة بين المناطق السورية، لكنه لن يسقطها حقًا إن لم ينجح في اقتلاع سلطات الأمر الواقع المفروضة عليه بفعل السياسة الرعناء والخبيثة التي اختارها الأسد للقضاء على الثورة السورية.

ربما باستطاعة العودة إلى الماضي تحفيز الأمل وتنشيط العاطفة وتفعيل الإمكانيات، لكنها في الوقت نفسه مجازفة لكونها تنكئ الجراح القديمة

لم أمنع نفسي ربما كأي سوري من الانجراف وراء شغف البدايات. كما لم أمنع نفسي من الرغبة في استعادة الماضي كشكل من أشكال الحنين لنا، لرفاقنا الثوار، لتلك الحالة من الطهرانية اللامحدودة في رسم صورة للوطن نظهر فيه وقد حققنا الحلم، واقتلعنا الاستبداد عائدين بعدها كأي شعب آخر إلى حقولنا ومسارحنا.

لم أمنع نفسي من استعادة ذلك الحلم، في السهر حتى الصباح في ساحة الامويين، وقد صار الأسد من الماضي، لكن ذلك التوغل في الماضي انطوى في نفسي على شيء من القسوة. فعلى الرغم من أن العودة تذكر لكنها بدت كنسيان لكل من قتل الأسد أبناؤهم وفجر بيوتهم، فغلى القهر في أدمغتهم كالحمم ودفعهم إلى حمل السلاح ولم يدركوا أنهم صاروا يسمون عند الجميع "جماعات إرهابية مسلحة". نسيان لعذابات الآلاف اللذين قبعوا تحت حكم تنظيم الدولة، ولم يواسهم أحد، ولم يُعنهم أحد لاستعادة توازنهم وحياتهم بعد كل الذي خبروه، وربما باستطاعة الماضي تحفيز الأمل، وتنشيط العاطفة، باستطاعته تحريك الإمكانية وتفعيلها، لكن العودة إليه مجازفة أيضًا تنكئ الجروح القديمة وتجدد نزفها. لنعد إليه، لكن دون أن يتملكنا طيش العاشقين، ودون أن يأخذنا الحب إلى قتل ما نحب، ودون أن ننسى "بروفة" الموت الطويل والخيبات والخذلان.