29-يوليو-2019

من المعرض

أحمد قليج (1964) رسّام تفاصيل صغيرة. نقول صغيرة ولا نقصد بها حجم التفاصيل نفسها، وإنّما مكانتها في معترك الحياة اليومية، والزاوية التي تطلّ منها على العالم، وكذلك على الآخرين. وصغيرة لأنّها ليست مهمّة بما يكفي لتلاحظها الحركة المتسارعة والهستيرية للتاريخ، وتضعها كذلك في متنها. ولكنّها في المقابل مُهملة بما يكفي لأن تتجاهلها وتضعها على الهامش مرّةً بعد مرّة.

أحمد قليج، في معرض  "متاهات الروح"، راوٍ يحكي في لوحته أكثر مما يرسم

الفنّان السوريّ الكردي المقيم في هولندا، لا يبدو مُهتمًّا بما سبق، ولا يضع اعتبارًا لحسابات الزمن وسرعته، أو سحق الأحداث الكبيرة للتفاصيل الصغيرة، بل والتنكيل بها أيضًا. يتجاهل كلّ ما سبق ويركض لاهثًا خلف كلّ ما هو مهمّش أو صغير، وبعينٍ متطفّلة تخبرهُ أنّ الهامش رأسمال فنّه، وأنّه، في حالاتٍ ليست نادرة بالضرورة، هو أساس أي حكايةٍ كانت. عدا عن أنّ المتن هذه المرّة مجرّد حكاياتٍ مُلفّقة، أو حكاية، لا يهمّ مصدرها وشكلها، ابتكرها كلّ من لا علاقة له بها.

اقرأ/ي أيضًا: صورة المرأة السودانيّة في رسومات آلاء ساتر

هذا ما تخبرنا إيّاه أعمال أحمد قليج. اللوحات المعروضة في "غاليري جانين ربيز" تحت عنوان "متاهات الروح" (مستمر حتّى 16 آب/أغسطس)، ترغب في فتح حديث مع المشاهد فور اصطدامه بها، ودون أن تتوقّف عند هذا الحد. فالهامش، كما تقول اللوحة، لا يأتي من الشوارع الخلفية للحياة اليومية، وإنّما من متنها تحديدًا، قبل أن يُطرد منه ليصير هامشًا، أو يقلّل من شأنه فلا تستطيع العين أن تلحظهُ. اللوحة التي جاءت بألوان كثيفة، توفّر علينا جهد الخروج بانطباعٍ ما عنها بما تقوله، والمُفاجئ أنّ هذا الانطباع الذي يُبنى عندنا بناءً على ما ترويه، يظلّ ثابتًا ولا يتغيّر، بل ويترسّخ أكثر لوحةً بعد أخرى، وكلّ لوحة من لوحات المعرض تدعونا إلى البحث لا عما يقبع خلفها، وإنّما عن ما هو ماثلٌ أمامها، واستخراج ما تنطوي عليه من حكاياتٍ أو مشاهد.

وجوه أحمد قليج ترجمة حرفية للخوف السوريّ الذي تراه مُنفتحًا على احتمالاتٍ غامضة

هكذا، يكون قليج راوٍ أكثر منه فنّان. يحكي في لوحته أكثر مما يرسم، ولأنّه لا يملك المساحة التي يملكها الحكّائين، يكتفي برسم وجوهٍ فقط داخل لوحته، ويسند إليها مهمّة أن تحكي، أن تروي للمشاهد ما تراه تحديدًا، كلّ ما تراه. وعملية الحكي هذه تتمّ من خلال ملامح وجوه شخصياته القلقة التي تبدو كأنّها تترقّب شيئًا ما، أو مصيرًا لن يكون عاديًا بطبيعة الحال.

هكذا نشعر على الفور بأنّ ما نراه من وجوده وصلت إلى ذروة قلقها، هو ترجمة فعلية لما يحصل في سوريا. أو ترجمة حرفية للخوف السوريّ الذي تراه مُنفتحًا على احتمالاتٍ غامضة.

اقرأ/ي أيضًا: معرض أسامة بعلبكي.. شراكة شخصية مع العزلة

انطباعنا الأخير عن لوحات أحمد قليج أنّه يُحاول أن يخبر الآخرين عن تأثير الموت على الناس، أو على ضحاياه تحديدًا، لا بعد حدوثه، وإنّما قبل ذلك بدقائق قليلة جدًا. ولأنّ الكتابة أو الحكي لا تبدو ممكنة، رسم قليج وجوهًا فقط لأنّ لا جدوى من رسم الجسد كاملًا، طالما أنّ الوجه كافيًا لتفسير أو عكس شعورهً. هكذا، لا يبدو ممكنًا تفسير ملامح الوجوه بغير هذه الطريقة إطلاقًا، فما الذي سيدفع للعين للانبهار ومن ثمّ الخوف غير الموت، أو شيئًا ما ليس أقلّ سوءًا منه؟ أو ما الذي سيدفع الفنّان نفسه لطمس ملامح عين وترك أخرى على حالها؟ من يعرف!

 

اقرأ/ي أيضًا:

هجار عيسى ولوحة المجاز

معرض فهد الحلبي.. البحث عن الخط العربي في المراسلات الإلكترونية