11-مايو-2023
لوحة لـ إقبال ناجي قارصلي/ سوريا 1964

لوحة لـ إقبال ناجي قارصلي/ سوريا 1964

كتب شاعر، منذ أسابيع، نثرًا جميلًا، على حسابه في "فيسبوك"، محتفيًا بقدوم الربيع. هلل للورد الجوري المضمخ بروائح أيام زمان، ولنبات العليق الذي يسور النهير العائد بعد غياب طويل، وأعلن فرحته، المشوبة باعتزاز، لأنه استطاع معرفة نوعين أو ثلاثة من الطيور التي بكرت في إحياء حفل الربيع هذا العام..

واغتنم الشاعر الفرصة كي يذهب، برفقة ذاكرته، في رحلة إلى الوراء، إلى أيام طفولته ويفاعته، في ضيعته المعربشة على سفوح الجبال، حيث كانت الأيام تمضي سريعة بين أشجار الحور والصفصاف والتوت، وعلى ضفاف النهر المتدفق، وفي مطاردة الأفاعي، وصيد السمك النهري، واكتشاف أعشاش الطيور، وفي التهام ما تجود به الطبيعة من أعشاب صالحة للأكل.. السباحة حتى الإنهاك، واللعب الماراثوني بطابة الخرق على العشب الزاهي، والنوم العميق على الأغصان أو على الأرض في ظلالها..

دعا شاعر  قرائه أن يعيدوا إحياء الربيع في أرواحهم، وأن يخرجوا إلى الهواء كلما أتيح لهم، أن يغمسوا أقدامهم في مياه النهر الذي ربما لا يعود في العام القادم، ويتنفسوا ملء رئاتهم نسائم الربيع الهاربة من دخان السيارات، ويتشبثوا بما تبقى من الطبيعة

ويؤكد الشاعر بلا تردد: "إنه فردوسي الشخصي المفقود"، خاتمًا نصه النوستالجي بدعوة حارة لقرائه أن يعيدوا إحياء الربيع في أرواحهم، وأن يخرجوا إلى الهواء كلما أتيح لهم، أن يغمسوا أقدامهم في مياه النهر الذي ربما لا يعود في العام القادم، ويتنفسوا ملء رئاتهم نسائم الربيع الهاربة من دخان السيارات، ويتشبثوا بما تبقى من الطبيعة، ويتمرغوا بالخضرة الناجية من زحف الإسمنت الأحمق.. أن يستجيبوا للحافز الوحيد المتبقي للفرح: قدوم الربيع.

بالطبع، تلقى كاتب النثر تعليقات عديدة مصفقة، مع عشرات "اللايكات" والقلوب الحمراء، لكنه أيضًا تلقى تقريعًا من خمسة أو ستة ممن ينتمون، بشكل أو بآخر، إلى ما يسمى "الوسط الثقافي".

وقد دار التأنيب المغلف بالعتب المحب حول تهمتين: فكيف لمثقف مسؤول، ملتزم وحصيف، أن يدعو مواطنيه المكبلين بالفقر وهموم العيش، والرازحين تحت وطأة ظروف قاهرة، والمنتمين إلى بقعة من الأرض يظللها الحزن، بخريطة دامية وممزقة، وجروح لم تندمل بعد.. كيف له أن يدعو هؤلاء إلى نسيان كل ذلك والذهاب للتمرغ بمرح في أحضان الطبيعة.. أي ترف واهم يعيش فيه شخص كهذا؟!

أما التهمة الثانية فهي أن الشاعر إياه كان مغرقًا في رومانسيته، فاقترح لبلاده وأهل بلاده، أكثر الحلول بؤسًا: العودة إلى الوراء بدل التطلع إلى المستقبل، والذوبان الصوفي بالطبيعة بدل نفض الخرافات والضلالات والمعوقات العتيقة البالية والانطلاق في وثبة إلى الأمام، الغرق في أحلام يقظة خضراء بدل نهضة علمية وصناعية وتكنولوجية ومعرفية.. تواكب العالم الراكض أمامنا..

والتهمتان لمحبي الطبيعة قديمتان، ما يتيح لنا استعارة إجابة قديمة أيضًا، من مكان آخر وسياق زماني مختلف، لكنها تفي بالغرض.

في نيسان من العام 1946، كتب جورج أورويل في صحيفة التربيون، مقالًا بعنوان "بعض الأفكار حول العلجوم"، يحتفي فيه بقدوم الربيع، متحدثًا عن العلجوم (الضفدع) الذي يحي مجيء الربيع بأسلوبه الخاص "قبل السنونو، قبل النرجس البري، وليس بعد زهرة اللبن الثلجية بكثير"، وبعد وصف تفصيلي لطقوس العلجوم الربيعية، يستدرك أورويل قائلًا: "أعي أن الكثير من الأشخاص لا يحبون الزواحف أو البرمائيات، لكنني لست أقترح من أجل الاستمتاع بالربيع أنه ينبغي عليك أن تبدي اهتمامًا بالعلاجيم، هناك أيضًا الزعفران والسمان والوقواق وبرقوق السياج.. المغزى هو أن مباهج الربيع متوفرة للجميع، ولا تكلف شيئًا".

وفي مقطع كأنه يصف حالنا يقول: "يُشار إلى الربيع عمومًا كمعجزة، وخلال السنوات الخمس أو الست الماضية فإن هذا الاصطلاح التعبيري البالي أخذ زخمًا جديدًا. بعد أصناف الشتاء التي توجب علينا احتمالها مؤخرًا، يبدو الربيع خارقًا فعلًا، ذاك أنه بات من الأصعب والأصعب تدريجيًا الإيمان أنه سوف يأتي فعلًا".

جورج أورويل: "الربيع ما يزال هو الربيع. القنابل النووية تتراكم في المصانع، وأفراد الشرطة يطوفون عبر المدن، والأكاذيب تتدفق من مكبرات الصوت، لكن الأرض ما تزال تدور حول الشمس، لا الدكتاتوريون ولا البيروقراطيون ـ مهما اعترضوا ـ قادرون على إيقافها"

ويتساءل الكاتب البريطاني الشهير: هل من السذاجة التغني بالربيع؟ هل في هذا أي ضرر؟ مؤكدًا أن مجرد تلميح في أحد مقالاته عن جمال الطبيعة والاستمتاع بها، كان يجلب عليه رسائل غاضبة من قراء كثر: إنها عاطفية مبتذلة ـ هكذا يصرخ القراء ـ وصوفية سياسية، فبدلًا من الدعوة إلى الاسترخاء في أحضان الطبيعة، على الكتاب تشجيع عدم الرضا وعدم القبول وبالتالي الإقدام على التغيير.. ثم أن أي إلحاح، في عصر العلم هذا، على العودة إلى الطبيعة يعني حتمًا تشجيعًا على النفور من الآلة، من الصناعة، من التكنولوجيا ومن التقدم.. باختصار: إنها رجعية صريحة.

يسخر صاحب "1984" من هذا الخلط الساذج لمستويات الحياة والتعاطي معها، ومن هذا التمييز الحاد بين الاستمتاع بالطبيعة والتقدم، متسائلًا: لماذا علينا أن نبيد كل مباهج الحياة البسيطة والمجانية بذريعة أننا مهمومون بقضايا كبرى؟ ولماذا علينا أن نسعى، إذن، إلى حل جميع مشاكلنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.. إذا كان خلو البال والوقت الفسيح الناجمان عن ذلك لن يتيحا لنا متعة "اكتشاف أول زهرة ربيع"؟..

ويختم: ".. الربيع ما يزال هو الربيع. القنابل النووية تتراكم في المصانع، وأفراد الشرطة يطوفون عبر المدن، والأكاذيب تتدفق من مكبرات الصوت، لكن الأرض ما تزال تدور حول الشمس، لا الدكتاتوريون ولا البيروقراطيون ـ مهما اعترضوا ـ قادرون على إيقافها".