07-فبراير-2024
صورة لمقال مروان البرغوثي صلابة الحركة الأسيرة في وجه أساليب المحتل القمعية

مروان البرغوثي الأسير البطل في وجه أساليب المحتل القمعية

في العام 2004 أصدرت محكمة إسرائيلية حكما بالسجن 5 مؤبدات وأربعين عامًا، على السياسي والقيادي الفلسطيني البارز مروان البرغوثي، وجاء ذلك الحكم بعد عامين من الاعتقال، كابد فيهما البرغوثي شتى أنواع التعذيب والحرمان والعزل الانفرادي. ومع ذلك لم يستطع الاحتلال الإسرائيلي كسر إرادة البرغوثي الذي صدّر كتابه "ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي" بالقول إنه "إذا كان ثمن حرية شعبي فقدان حريتي فسأدفع هذا الثمن". 

وتمتدّ تجربة البرغوثي مع الاعتقال في سجون الاحتلال إلى ما قبل عام 2002 بربع قرن، عندما كان طالبًا في المرحلة الثانوية، فمن حينها ومروان البرغوثي يسطّر تجربة نضالية فريدة في مقاومة الاحتلال، عنوانها البارز صلابة الحركة الأسيرة أمام أساليب المحتل القمعية. كما تؤكد هذه التجربة النضالية يومًا بعد آخر أن قضية الأسرى القابعين في سجون الاحتلال ومأساتهم قضية لا يجوز إهمالها، "فهي قضية ثقافية أخلاقية بامتياز قبل أن تكون فقط قضية وطنية أو قومية" حسب زاهي وهبي الذي تولى تقديم كتاب مروان البرغوثي "ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي".

مارس مروان البرغوثي الفعل المقاوم بشتى أشكاله، فقد كابد التحقيق والاعتقال والإبعاد والعزل الانفرادي، ومع ذلك لم تلن له قناة، وبقي صامدًا في وجه جلّاديه. كما كان البرغوثي أحد الفاعلين الرئيسيين في الانتفاضة الأولى والثانية، ويتهمه الاحتلال الإسرائيلي، نتيجةً لمشاركته الفعالة في الانتفاضتين، بالانتماء لتنظيم إرهابي والضلوع في قتل إسرائيليين، وهي تهم ينفيها البرغوثي الذي طالما أكّد أن دوره سياسي، لكنه تعرض إثر تلك الاتهامات للمطاردة ومحاولة الاغتيال أكثر من مرّة. ودفع في الأخير من حريته الثمن.

البرغوثي: المعركة حتمية ومستمرة بين مناضل من أجل حرية شعبه وبلاده، وبين قاتل ومحتل وسجّان وجلاد يرتكب الجرائم

 

المسيرة الكفاحية للبرغوثي

في السادس من حزيران/يونيو 1959 ولد مروان البرغوثي في بلدة كوبر الفلسطينية، وفي مرحلة مبكرة من عمره بدأت تجربته الكفاحية، فخلال دراسته الثانوية اعتقل في العام 1976 بتهمة الانضمام لفتح، واعتقل ثانية بتهمة العضوية في خلية فدائية فتحاوية والمشاركة في مظاهرات مناهضة للاحتلال، وكان ذلك بالتحديد في العام 1978، حيث تم التحقيق معه في زنازين رام الله، وهناك تعرض البرغوثي الشاب لتجربة مريرة مع التعذيب الوحشي على يد 3 محققين، مارسوا عليه تعذيبًا جسديًا ونفسيًا: من شبْحٍ وضرب وإهانة وتحقير وتهديد.

 ومن بين مشاهد التعذيب الوحشي إجباره من طرف محقق يدعى سامي على الوقوف عاريًا وتوجيه ضربة صاعقة إلى أعضائه التناسلية أفقدته وعيه وجعلته يرتطم بجدار خشن ما تسبب له في شجّة أبدية على الجبين، ويتذكر البرغوثي. بألم ما قاله له المحقق سامي بعد استيقاظه "الآن أعتقد أنك لن تستطيع إنجاب الأطفال، ستحرم مدى الحياة من الإنجاب، لأنّ أمثالك لن ينجبوا سوى المخربين والقتلة".

 

 

تمنى البرغوثي بعدها بحوالي ربع قرن أن يمثل أمامَه المحقق سامي ليقول له إنّ ابنه "قسّام صار رجلًا، حمل الراية والفكرة، كما هو حال آلاف الشبان المناضلين. لم تمت الفكرة، وفلسطين ليست بعاقر كما توهّمتم".

لم تتحقق أمنية اللقاء بالمحقق سامي، لكنّ البرغوثي كان بعدها بـ 25 سنة، وبالتحديد في مركز تحقيق المسكوبية بمدينة القدس المحتلة، وجهًا لوجه أمام أحد المحققين الثلاثة الذين مارسوا عليه التعذيب الوحشي في زنازين رام الله، إنه المحقق عزال واسمه الكامل عوفر ديكل الذي أصبح نائب رئيس جهاز الشاباك.

ففي الـ15 من نيسان/إبريل 2002 تمكن جهاز الأمن العام الصهيوني من اعتقال البرغوثي وإيداعه معتقل المسكوبية، الذي يُطلق عليه الأسرى اسم المسلخ لما يمارس فيه من قمع وتعذيب وانتهاكات تعسفية، أدت إلى استشهاد العديد منهم أثناء خضوعهم للتحقيق. 

يقول البرغوثي إن سجانيه كانوا في حالة نشوة لظنهم أنهم باعتقاله قد اعتقلوا الانتفاضة، التي يجهلون أنها حركة مقاومة شعبية لا تتوقف باعتقال فرد ولا باعتقال المئات والآلاف، والعبارة للبرغوثي.

كان المحقق عوفر ديكل (نائب رئيس الشاباك حينها) من بين عشرات المحققين الذين تعاقبوا على استجواب البرغوثي لأكثر من 100 يوم في محاولة لكسر إرادته، مع ما صاحَب التحقيق من تعذيب نفسي وبدني وتجويع وحرمان من النوم وضرب.

 وبغطرسة الجلاد يقرّع جنرال الشاباك عوفر، البرغوثي قائلًا "يفترض ألا تكون حيًا، وقد أضعت عمرك ومستقبلك وهذه هي النهاية ستمضي ما تبقى من عمرك بين جدران السجن ووراء القضبان".

حدّق البرغوثي في عيني عوفر "متذكرًا إياه يوم كان شابًا يدعى غزال، حين شارك في التحقيق معي عام 1978، أي قبل ربع قرن، وها نحن نلتقي من جديد والمعركة لم تنته بعد (...) قلت له: أنت كبرت مع القوة والاضطهاد، ولكنني كبرت مع الشموخ والقوة، شموخ شعبي وإبائه، القوة لا محالة زائلة، أما الشعوب وإرادتها فهي الباقية".

إنها كما يقول البرغوثي المعركة الحتمية والمستمرة "بين مناضل من أجل حرية شعبه وبلاده، وبين قاتل ومحتل وسجّان وجلاد يرتكب الجرائم، إننا نلتقي ولا أزال ممسكًا بيدي راية الحرية والمقاومة".

البرغوثي: "إذا كان ثمن حرية شعبي فقدان حريتي فسأدفع هذا الثمن"

 

استكمال التعليم

على الرغم من السجن والاعتقال المتكرر والطويل استطاع البرغوثي أن يواصل تعليمه ويعزّز ثقافته، ففي السجن تعلم العبرية ومبادئ اللغتين والفرنسية، وخلال فترة الإفراج المؤقت حصل على البكالوريوس في التاريخ والعلوم السياسية من جامعة بيرزيت وشهادة الماجستير في العلاقات الدولية، والتحق قبل اعتقاله مجددًا نيسان/إبريل 2002 بجامعة القدس أبو ديس كأستاذ محاضر.

وفي العام 2010، ومن داخل العزل الانفرادي في السجن، حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من معهد البحوث والدراسات التابع لجامعة الدول العربية. كما خاض بالموازاة مع الدارسة والاعتقال تجربة التأليف فصدرت له عدة مؤلفات أبرزها كتاب "ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي" الذي يروي فيه تجربة العزل الانفرادي خلال الفترة الممتدة من العام 2002 إلى 2005، كما يعرّي الكتاب الوحشية الإسرائيلية، كاشفًا الطبيعة "النازية" لمعتقلات الاحتلال الإسرائيلي وأساليب التعذيب الهمجي التي يمارسها ضباط الاحتلال وجنوده بحق الأسرى والمعتقلين. وبالإضافة لذلك الكتاب ألف كتابين آخرين هما: "الوعد" وكتاب "الوحدة الوطنية قانون الانتصار" ضمّنهما رؤيته السياسية والوطنية.

وبين الاعتقالين الأول والأخير مرّ البرغوثي بمحطات نضالية عديدة، فبعد الإفراج عنه عام 1983 اعتقل من جديد عام 1984 لفترة قصيرة، تلاها اعتقال ثالث في 1985 لمدة 50 يومًا، فُرِضت عليه بعدها الإقامة الجبرية وتعرض خلالها للاعتقال الإداري.

 

النشاط السياسي

وخلال الانتفاضة الأولى عام 1987 ساهم البرغوثي على نحو فاعل في تشكيل القيادة الموحدة، ما جعله مطاردًا من سلطات الاحتلال التي اعتقلته وأبعدته بعدها إلى الأردن، ومنها توجه لتونس حيث أصبح من قيادة الصف الأول في حركة فتح، فهناك عمل مع خليل الوزير ورافقه في سفره الأخير إلى ليبيا قبل اغتياله بأيام من عودته لتونس.

في المؤتمر الخامس لحركة فتح عام 1989 انتخب مروان البرغوثي عضوًا في المجلس الثوري للحركة، وظلّ وهو في منفاه القسري عضوًا في اللجنة العليا للانتفاضة في منظمة التحرير الفلسطينية، ومشاركًا في القيادة الموحدة للانتفاضة.

عقب اتفاق أوسلو، وبالتحديد في نيسان/إبريل 1994 عاد البرغوثي إلى الضفة الغربية، حيث انتخب نائبًا لفيصل الحسيني، كما تولى منصب أمين سر حركة فتح في الضفة الغربية، وفي العامين 1996 و2006 انتخب البرغوثي عضوًا في المجلس التشريعي الفلسطيني عن دائرة رام الله، حيث كان الأصغر عمرًا بين النواب.

لعب البرغوثي قبيل الانتفاضة الثانية دورًا بارزًا في إعادة ترتيب وبناء حركة فتح في الضفة الغربية، كما زاد من دائرة نشاطه السياسي باتصاله مع جمعيات للسلام من حول العالم وعقد لقاءات مع ناشطي اليسار الإسرائيلي، حيث كان يراهن على أن يقود نهج السلام ونتائج اتفاقية أوسلو إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967. لكنّ آماله تلك كانت في غير محلها حيث لم ينفذ الاحتلال مقتضيات اتفاق أوسلو على أرض الواقع. وكانت الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000 بمثابة إعلان واضح على فشل أوسلو، فقد صرّح البرغوثي حينها أنّ "سلاح حركة فتح حاضر وستحافظ عليه حتى الحرية والاستقلال". 

 

شارك البرغوثي في مظاهرات الانتفاضة الثانية، وكان حاضرًا بشكل دائم مع أهالي الشهداء لتقديم واجب العزاء، كما واكب الانتفاضة إعلاميًا عبر اللقاءات الصحفية التي هاجم فيها، وفي غيرها من الفعاليات، التنسيق الأمني، مطالبًا الأجهزة الأمنية بـ "حماية الشعب الفلسطينيّ وكوادر الانتفاضة واستهداف العملاء".

ونتيجة لهذه الدور الفاعل في الانتفاضة كالت سلطات الاحتلال التهم للبرغوثي الذي حملته مسؤولية عدد من عمليات كتائب الأقصى، ما جعله هدفًا لأجهزة الاحتلال التي طاردته وحاولت اغتياله على إثر ذلك أكثر من مرة. أشهرها قصف موكبه أمام مكتبه في رام الله الرابع من آب/أغسطس 2001، حيث أسفر الاستهداف عن استشهاد مرافقه مهند أبو حلاوة.

ومع تهديدات البرغوثي بتصعيد المقاومة صدرت بحقه مذكرة توقيف، اتهمته فيها سلطات الاحتلال بالضلوع في محاولات قتل وحيازة أسلحة بدون ترخيص، والعضوية في تنظيم محظور ولعب دور ضابط الاتصال بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وقادة المجموعات المسلحة لحركة فتح، كما اتهم من طرف الاحتلال بأنه كان المسؤول المباشر مع مرافقه الشخصيّ أحمد البرغوثي، عن توفير السّلاح والتمويل والمأوى وإعطاء الأوامر لتنفيذ العمليات العسكريّة.

اسم البرغوثي حاليًا كمرشح قوي لرئاسة السلطة الفلسطينية، خاصة بعد إعلانه منتصف كانون الثاني/يناير 2021 الترشح للمنصب.

 

أسّست في العام 2012 حملة شعبية دولية تضم رؤساء دول ووزراء ورؤساء برلمانات، وقادة أحزاب، وقادة سياسيين، بالإضافة لتشكيل لجنة دولية عليا من 9 من حاملي جائزة نوبل للسلام، هدفها إطلاق سراح البرغوثي من سجون الاحتلال، لكنّ السلطات الإسرائيلية رفضت كل محاولات الإفراج عن البرغوثي.

لكنّ السجن والأسر لم يقيّدا نضال البرغوثي ولا فاعليته في مشهد المقاومة الفلسطينية، فقد كان وراء إعداد صيغة اتفاق الفصائل الفلسطينية عام 2003 "لوقف العمليات العسكرية لثلاثة شهور مقابل وقف الاحتلال عمليات الاغتيال والاقتحامات التي ينفذها".

كما أسهم البرغوثي عام 2006 في صياغة وثيقة الأسرى التي عدلت لتصبح وثيقة الوفاق الوطني، سعيًا لحقن دماء الفلسطينيين بعد الاشتباكات التي تلت فوز حماس بالانتخابات.

كما نال البرغوثي عام 2009 عضوية اللجنة المركزية لحركة فتح، قبل أن يقصى في مؤتمر الحركة السابع 2016 من تولي منصب نائب رئيس الحركة على الرغم من حصوله على 70% من أصوات الأعضاء، وكان ذلك أحد أسباب زيادة الشقة بينه والسلطة الفلسطينية، وعلى إثر ذلك الاستبعاد وصفت زوجته فدوى البرغوثي "القرار بأنه انصياع لتهديدات رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو".

ويطرح اسم البرغوثي حاليًا كمرشح قوي لرئاسة السلطة الفلسطينية، خاصة بعد إعلانه منتصف كانون الثاني/يناير 2021 الترشح للمنصب.

أصاب زاهي وهبي كبد الحقيقة عندما قال في تقديمه كتاب مروان البرغوثي "إنّ الحبر لا يستطيع مجاراة الدم أو الدمع، وليس مطلوبًا منه ذلك"، فتجربة البرغوثي من التجارب التي يقصر فيها المقال عن وصف الحال.

ويبقى الأمل برؤية البرغوثي وجميع الأسرى في سجون الاحتلال قائمًا ما دامت المقاومة مستمرة.

غدًا

لن يبقى من الجدار سوى أثر الجدار

لن يبقى من الحصار سوى حكايات الحصار

لن يبقى من النار سوى بقايا النار.

غدا

تتهاوى غربان الفولاذ

تصير مصفحاتهم خردة

وعلى نجمة الضغينة يدوس طفلٌ من فلسطين.