05-يناير-2022

كتاب: "سيرة الأجواق المسرحية العربية في القرن التاسع عشر"

ألترا صوت – فريق التحرير

صدر حديثًا عن منشورات المتوسط كتاب: "سيرة الأجواق المسرحية العربية في القرن التاسع عشر – مذكرات الممثلين عمر وصفي ومريم سماط"، والكتاب من إعداد الروائي والباحث المعروف تيسير خلف.

والأجواق هي جمع كلمة جَوْق والجوق المسرحي وهو المصطلح الذي كان يستخدم في القرن التاسع عشر لما نسميه اليوم الفرقة المسرحية.

نَشَرَ وصفي مُذكِّراته في مجلَّة "الصباح" القاهرية طَوَالَ العام 1931 في ستِّ وثلاثين حلقة، وهي شهادة ثمينة على تلك المرحلة الغامضة من تاريخ المسرح العربي

كتب خلف في مقدمته: "يضمُّ هذا الكتاب المُذكِّراتِ الفنِّيَّةَ للمُمثِّلَيْن المسرحيَّيْن عمر وصفي ومريم سماط اللَّذَيْن عاصرا بدايات ظُهُور الأجواق المسرحية المُحترفة في مصر، خلال عَقْدَي الثَّمانينيَّات والتِّسعينيَّات من القرن التاسع عشر (...) وإن كانت مُذكِّرات مريم سماط مُختَزَلَة إلى حَدٍّ كبير، فإن مُذكِّرات عمر وصفي أكثر تفصيلًا وإحاطة بتفاصيل تلك المرحلة التَّأسيسيَّة للنهضة الفنِّيَّة التي ترفل فيها مصر منذُ قرن ونصف القرن، بمُساهمة حاسمة من فنَّانين ومُبدعين سُوريِّيْن، فرُّوا من الجَوْر الحَمِيْدِيِّ؛ وَوَجَدُوا في أرض الكنانة جنَّة الحُرِّيَّة التي كانوا بها يحلمون".

اقرأ/ي أيضًا: تيسير خلف.. وقائع السيرة الدمشقية لمسرح أبي خليل القباني

أما الممثل عمر وصفي، واسمه الحقيقي عمر محمَّد ميقاتي، فقد ولد في العام 1874، لأُسرة قاهرية مُحافِظَة، حيثُ كان والده يتولَّى الميقات والأذان والقرآن، في جامع الحسين. خاض تجارب مسرحية عديدة قبل أن يلتحق بجَوْق القبَّاني السُّوريِّ - المصري، إذ عمل في أجواق عدة، وحين انضمَّ للقبَّاني ظَهَرَتْ مواهبه الكُوميدية دفعة واحدة، وغدا نجمًا.

يقول خلف: "نَشَرَ وصفي مُذكِّراته في مجلَّة "الصباح" القاهرية طَوَالَ العام 1931 في ستِّ وثلاثين حلقة، ويبدو أن فكرة تسجيل هذه المُذكِّرات هي من بنات أفكار رئيس تحرير المجلَّة، وهي فكرة فَطِنَة، نجحت في إنقاذ شهادة ثمينة على تلك المرحلة الغامضة من تاريخ المسرح العربي، فعمر وصفي في ذلك التاريخ كان قد بَلَغَ من العمر خمسة وخمسين عامًا، وهو آخر الأبطال الأحياء من ذلك العهد، وآخر شاهد على مرحلة البدايات تلك"، ويضيف بعد ذلك: "هذه المُذكِّرات هي المصدر الوحيد عن الكثير من المعلومات المُتعلِّقة بنشأة المسرح العربي في مصر". هنا مقاطع من المذكرات.


فرقة القبَّاني المصرية

اتَّفق عبد الرَّزَّاق بك مع المرحوم أبي خليل القبَّاني على تكوين فرقة جديدة [أواخر العام 1894] تمثِّل في ذلك المسرح (مسرح شارع عبد العزيز) لأن الملاهي كانت قد انتقلت من جواره.

وألَّف أبو خليل فرقة مصرية بعد الفرقة السُّوريَّة التي كان يأتي بها إلينا، وضمَّت هذه الفرقة بنات سماط [مريم وهيلانة وحنينة] وأنا أيضًا [عمر وصفي]، والمُطرب الشيخ حسن صالح، وعمر فايق، الاختصاصي في أدوار المُلُوك، واختصَّت الفرقة بالروايات المُؤلَّفة بدل المُعرَّبة، فكُنَّا نمثِّل "عنتر بن شداد"، و"وَلَّادة بنت المستكفي"، و"عفيفة"، و"الأمير محمود".

إقبال عظيم

ما شاهدتُ مثل هذا الإقبال من قبل.. تزاحُمٌ على باب التياترو لا مثيل له، وتعارُكٌ على شُبَّاك التذاكر، وقد تاجر الكثيرون في هذه التذاكر التي كانوا يشترونها من التياترو ويبيعونها بأضعاف ثمنها، وفي ليلة التمثيل، كان البوليس، مُشاة ورُكبانًا، على باب التياترو حفْظًا للنظام، كما كان العهد في ليالي سِيْرك عمَّار.

المُذكِّرات التي كتبها الممثل عمر وصفي هي المصدر الوحيد عن الكثير من المعلومات المُتعلِّقة بنشأة المسرح العربي في مصر

وسَيْرنا على هذا الإقبال يزيد طول الشتاء، ولمَّا جاء الصيف، فُوجئْنا بوفاة المغفور له الخديوي إسماعيل باشا (في 2 آذار 1895)، ولمَّا وَصَلَتْ جُثَّته إلى مصر، أُقفِلَت المسارح والملاهي حِدَادًا على الفقيد العظيم.

المرحومة زوجته

جاءنا يومًا أبو خليل وهو يُوَلْوِلُ ويبكي ويذرفُ الدَّمْع الغزير، وينعى إلينا زوجته العزيزة، قائلًا وهو ينتحب إنها ماتت تاركة صغارًا، لا يدري ماذا يفعل بهم، حتَّى بكيتُ معه، ثمَّ أخبرَنا أنه سيرحل إلى بلده، ليدفنَ المرحومة، ثمَّ يعود.

اقرأ/ي أيضًا: هل يمكن أن تتحول رحلة أبو خليل القباني إلى أمريكا إلى فيلم سينمائي؟

وسافر أبو خليل، ولكنه لم يعد، ولم يدفنْ أحدًا، فقد كان كلُّ هذا البكاء ادِّعاء باطلًا، ليفرَّ منَّا، ويسافر، وزوجته كانت على قيد الحياة.

برتيتة بنات!

في عام 1893 استقرَّ رأي سليمان القرداحي على تأليف جَوْق جديد، فسافر إلى سوريا، ليأتي منها بمُمثِّلات جديدات، واستطاع أن يجمع من أنحائها ثماني فتيات صغيرات وجميلات ومُتعلِّمات أيضًا، بل منهنَّ مَنْ يُحْسِنَّ التَّكلُّم بأكثر من لُغة، ووُفِّقَ إلى قريب له، أغراه بالحُضُور إلى مصر للتجارة! بالتمثيل، واقترض منه مبلغًا، ليكون ضمانًا للسلطات حتَّى يسمح للمُمثِّلات بالسَّفَر إلى مصر، وهكذا عاد القرداحي ومعه كما يقول برتيتة بنات عال!

وتألَّف جَوْق القرداحي الجديد والسَّيِّدة ألمز استاتي مُمثِّلته الأولى، وبين مُمثِّليه رحمين بيبس، ومحمَّد مُصطفى، والسَّيِّد أحمد، وعمر فايق، وبعض مُمثِّلي الأجواق المُتنقِّلة في الأرياف.

انفراج الأزمة

أنا الآن مُنقطع عن العمل في حَيْرة من أمري، طَوَالَ النهار في القهوة أُفكِّر وأُفكِّر فيما أفعل، هل أعود إلى المُعلِّم ميخائيل، وإلى عذابه وقريفته؟ هل أعود إلى أهلي مرَّة أُخرى صاغرًا تائبًا، وهكذا أُودِّع التمثيل والمسرح إلى الأبد، وأبحث عن تجارة أو أفتح مرَّة أُخرى دُكَّان دخاخني؟ تمرُّ بفكري هذه الآراء، فأزداد حَيْرة وضيقًا، وأسير في الشوارع على غير هُدى، وفي يوم يحدث أن أمرَّ أمام التياترو، فيناديني صاحب البوفيه الخواجا سليم، ويصيح بي كأنما في شوق شديد إلى رؤيتي، وكأنه قضى أيَّامًا في البحث والسؤال عنِّي: إنتَ فين، يا شيخ؟ ثمَّ يُسلِّمني رسالة باسمي، يقول إنها لديه منذُ أسبوع، وإذ بها دعوة من القرداحي للانضمام إلى فرقته، وإلحاف في الدعوة، وما علي إلَّا أن آخذ من الخواجة سليم كُلَّ ما يلزمني للسَّفَر إليه، حيثُ هو والجَوْقَة في طنطا.

ما هذا؟ هل انفرجت الأزمة؟ عال! هاتِ، يا خواجة سليم.. الخواجة لا يتأخَّر عن إعطائي ما أريد، وأسافر إلى طنطا، وهكذا عُدتُ إلى التمثيل.

بين حسَّان القرداحي!

وَصَلْتُ إلى طنطا والمدينة تموج بمَنْ فيها والنازلين إليها بمناسبة المولد الأحمدي، والشوارع غاصَّة بالجماهير، وَوَصَلْتُ إلى التياترو بعد أن عانيتُ كثيرًا، وهناك وَجَدْتُ زملائي في انتظاري، وقد كان استقبالهم لي جميلًا باهرًا، أنساني الأيَّام الماضية، ثمَّ زميلاتي الجديدات، ويا لهنَّ من زميلات! فتيات لا يزيد عُمُر كبراهنَّ عن تسعة عشر عامًا، ولا تستطيع أن تُفضِّل واحدة منهنَّ عن الأُخرى حُسْنًا وجمالًا وفتنة.

في عام 1893 استقرَّ رأي سليمان القرداحي على تأليف جَوْق جديد، فسافر إلى سوريا، ليأتي منها بمُمثِّلات جديدات

وكانوا قد أعدُّوا في تلك الليلة رواية "الظلوم"، وهم يُجرون تجربة لها، فقدَّمني إخواني إلى القرداحي وزوجته، وهي سيِّدة ظريفة، كانت تشتغل ناظرة مدرسة للبنات في الإسكندرية، وَعَرَضَ عليَّ دَوْر السَّجَّان في تلك الرواية، وكان ذلك من حُسْن حظِّي، فهو دَوْر مُضحك، وهو من الأدوار التي أحفظها، فلم أجد عناء في تمثيله.

اقرأ/ي أيضًا: تيسير خلف عن "الحركة النسائية المبكرة".. اقتفاء أثر المرأة في القرن التاسع عشر

ولكن الزميلات الحِسَان اللَّاتي لم يفارقهنَّ بصري منذُ حضرتُ؛ لم أستطع إلَّا أن أسأل إخواني عنهنَّ، وماذا يفعلنَ الليلة والرواية ليس فيها مُمثِّلات، وكُلُّ أدوارها للرجال فقط، فضحك إخواني، وسألوا القرداحي أن يُوقِف البروفة حيثُ لا حاجة بها، فالرواية معروفة، وأن تقوم الفتيات بأدوارهنَّ حتَّى أرى ما يفعلنَ، يالله، يا بنات!

واصطفَّت الآنسات، وأنشدن الأناشيد بأصوات ساحرة فتَّانة، وغنَّت كُلُّ واحدة منهنَّ موالًا من مووايل الشام، ثمَّ رَقَصْنَ جميعًا رقصة الدَّبْكَة.

يا الله، ما أبدعهنَّ! وُجُوه جميلة وأصوات ساحرة، ولا أنسى إحداهنَّ الآنسة رحلو سالم، ولا أنسى صوتها الحنون الملائكي، هذه الآنسة التي أصبحت فيما بعد زوجة رحمين أفندي بيبس، رحمها الله، ولا يزال أولادها يعولون أباهم الشيخ، وهم بين مشتغل في التجارة، ومُوظَّف في بنك، جميعهم حول الشيخ يُعزُّونه، ويُكرمونه، ويُحبُّونه.

منيح منيح!

- منيح.. منيح، لكنْ، بتعلِّي صوتك، الترسو إلو حقّ يسمع شو بتقول.

- لكنْ، يا أُستاذ هذا الصوت طبيعي، والتمثيل يجب.

-هالطبيعة بتقول بلاش الترسو؟

هذه المناقشة كانت بيني وبين القرداحي بعد تمثيل الرواية، وبعد أن كان الزملاء جميعًا يشاهدونني بين الكواليس، وبعد أن التفُّوا حولي مُهنِّئين، فإني بذلتُ في تمثيله ما استطعتُ من جهد، وبعد أن تقدَّمتْ زوجة القرداحي تُهنِّئني بحرارة وشدَّة، أقبل زوجها وهو يقول لي هذا القول، ولكن السَّيِّدة عارضتْهُ بشدَّة، وانتصرت لي حتَّى علمتُ أنه أصبح لي في الجَوْق ظهير في وجه هذا الرجل الذي، ولا أدري لماذا لم أطمئنّ إليه، حتَّى كنتُ أعزم على العودة، لولا تهدئة إخواني.

واصطفَّت الآنسات، وأنشدن الأناشيد بأصوات ساحرة فتَّانة، وغنَّت كُلُّ واحدة منهنَّ موالًا من مووايل الشام، ثمَّ رَقَصْنَ جميعًا رقصة الدَّبْكَة

في الليلة التالية، كانوا يُمثِّلون "عُطَيْل" وتقدَّم إليَّ القرداحي وهو يقول: الليلة بتشوف كيف بيصير التمثيل بعُطَيْل، وبتعمل زَيِّي، وبتشوف الفَرْق بيني وبين أُستاذك الحدَّاد.

اقرأ/ي أيضًا: مجلة قلمون في عددها السابع عشر.. إطلالة واسعة على المسرح السوري

ظَهَرَ القرداحي، فدوَّى المكان بالتصفيق، ثمَّ سمعتُهُ صوتًا كالمدافع، يقصف في أنحاء المسرح، فيردِّد صداه بين جدران التياترو، وهو يجول ويصول، ولا يترك مكانًا في المسرح إلَّا وينتقل إليه، ويسوح بذراعَيْه في الهواء.

أهذا هو التمثيل الذي يقول عنه؟ الحقُّ لم يعجبني هذا الرجل، ولم أر فيه إلَّا التهويش.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المسرح المغربي والحركة الوطنية.. محمد القري أنموذجًا

توفيق الحكيم.. عصفور على خشبة المسرح (1- 2)