24-نوفمبر-2019

تيسير خلف وكتابه (ألترا صوت)

لا يتوقّف تيسير خلف عن التجوال في تفاصيل ويوميات رحلة العرب إلى المعرض الكولومبي الذي عُقد في مدينة شيكاغو الأمريكية عام 1893. الكاتب والباحث الفلسطينيّ يسعى، منذ بضعة سنوات، إلى توثيق الرحلة التي انطلقت من ميناء بيروت تقصد الإسكندرية ومنها إلى وجهتها، وعلى متنها ما يزيد عن 50 ممثّلًا وراقصًا وعازفًا انتدبوا لتقديم مجموعة عروض تمثّل العادات والفنون الشرقية أمام الغرب. هكذا، سيقدّم خلف كتابه "من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبي خليل القباني إلى أمريكا" كعتبة أولى، أو حجر أساس لمشروعه البحثي الذي بات هاجسًا عنده.

يعاين تيسير خلف كتابًا حال المرأة في ولاية سورية العثمانية، ومشاركتها في مؤتمر شيكاغو النسائي الذي عُقد على هامش معرضها العالميّ

لأنّ الكتاب عند خلف يولد غالبًا من رحم كتابٍ سبقهُ، كما هي الحال في الكتاب المذكور أعلاه، والذي أتبعه بروايةٍ تدور في فلك الرحلة تحت عنوان "عصافير داروين"، ومن بعدها كتاب يقتفي "وقائع مسرح أبي خليل القباني في دمشق"؛ فإنّ الكتاب نفسه سيقوده إلى كتابٍ جديد على مقربة من سابقيه، عنونه خلف بموضوعه "الحركة النسائية المبكّرة في سورية العثمانية: تجربة الكاتبة هنا كوراني 1869-1892"، وصدر لتوّه عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".

اقرأ/ي أيضًا: تيسير خلف في "عصافير داروين".. رحلة عربية إلى الهزيمة

بطريقةٍ ما، نحن إزاء غزوة جديدة لمؤلّف "مذبحة الفلاسفة" في رحاب تلك الرحلة الدسمة لجهة ما تنطوي عليه من مواد خام يروّضها البحث والتأليف. وما توفّره كذلك من عناوين مهملة ومثيرة في آن معًا. فبعد القبّاني ومسرحهُ، يفرد خلف كتابًا جديدًا يُعاين حال ودور المرأة في ولاية سورية العثمانية أوّلًا، ومشاركتها في مؤتمر شيكاغو النسائي الذي عُقد في المدينة على هامش معرضها العالميّ ثانيًا. مُتّخذًا من هنا كوراني واقتفاء أثرها وفكرها سبيلًا لذلك. بالإضافةٍ إلى ما تراهُ من رأيٍ حول دور المرأة في مجتمعها، وطبيعة علاقتها بالرجل: هل هي علاقة تكامل أم مساواة؟ أم أنّها غير ذلك؟

شرّعت التساؤلات أعلاه أبواب المجادلة على وسعها بين هنا كوراني ومواطنتها المقيمة في القاهرة زينب فواز عشية وصول رسالة بيرثا بالمر إلى كوراني تدعوها فيها إلى حضور المؤتمر النسائي في شيكاغو. ولكنّ المجادلة ما لبث أن تحوّلت إلى حربٍ صحافية أبرزت فيها كوراني ما تبنّته من أفكار بدت قريبة ممّا يُعرف بالأفكار الإصلاحية التي راجت آنذاك، والمتطابقة إلى حدٍّ ما وأفكار بطرس البستاني، إذ كانت كوراني تدعو إلى الاكتفاء بتعليم المرأة وتأهيلها بحيث تكون قادرةً على مهمّة بناء الأسرة فحسب. بينما كانت زينب فواز تقف على النقيض تمامًا، وتدعو إلى ما دعا إليه أحمد فارس الشدياق أي المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، بما في ذلك حقّ العمل خارج المنزل. بل إنّها، ووفقًا لخلف، تجاوزت الشدياق مطالبة كذلك بحقّ ممارسة السياسة، ترشّحًا وانتخابًا.

كانت زينب فواز تدعو إلى ما دعا إليه أحمد فارس الشدياق، إلى المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة

 يُخبرنا تيسير خلف أنّ دعوة بالمر وصلت إلى هنا كوراني بعد رفض مجموعة نساء سوريات الدعوة، إمّا بسبب الأعراف الاجتماعية التي تمنع النساء من المشاركة كما هو حال زينب فواز. وإمّا بسبب وضعهنّ شروطًا تعجيزية على بالمر نفسها لقبول الدعوة، كما فعلت أستير أزهري. بينما وافقت هنا كوراني معلّلة السبب بقولها: "فلم أر بدًا من تلبية هذا النداء الشريف، والامتثال لأمرها الكريم، لئلا يقال في المرأة السورية إنّها لا تصلح لشيء" (ص 33). ويؤكّد كاتبنا مستندًا إلى ما جمعه من مصادر عربية وإنجليزية أنّ كوراني حملت معها أفكارها إلى شيكاغو، وعبّرت عنها في خطبة استهلّتها بالقول: "بما أنّ المرأة هي أم الإنسانية، فإنّها تكون في وضع غير ملائم حين تسعى إلى أخذ مكان الرجل في العمل والهروب من قدرها الحقيقي".

اقرأ/ي أيضًا: تيسير خلف.. وقائع السيرة الدمشقية لمسرح أبي خليل القباني

قدّمت الكاتبة اللبنانية في البداية انطباعًا عبّر عن تعصّبها لأفكارها المتعلّقة بالمرأة وحرّيتها. ولكنّها، باختلاطها بنساء مجتمع النخبة الأمريكيّ، وعلى وجه الخصوص ماي سيوول، سيخفّف من حدّة أفكارها تمهيدًا لانقلابها عليها وتبنّي أخرى بديلة عبّرت عنها في محاضرة قالت فيها إنها مقتنعة بوجود أسباب وجيهة تدعو السيّدات الأمريكيات للتصويت، وهو ما يناقض مع ما كتبته لصديقتها هند نوفل رئيسة تحرير مجلّة الفتاة بأنّ الأمريكيات نساء "لم يقتنعنَ ويرضين بما قسم الله لهنّ".