18-أغسطس-2019

فريد بلكاهية/ المغرب

تمثّل تجربة الكاتب المسرحي الرصين محمد فراح إحدى التجارب المسرحية المغربية المتميزة، التي بزغ نجمها منذ سبعينيات القرن الماضي إلى جانب كوكبة من الأدباء والمسرحيين، الذين جعلوا من المسرح المغربي قاطرة فنية لمقاربة مفاهيم فكرية ومشاكل سياسية واجتماعية كان يتخبط فيها مغرب بعد الاستقلال، تصدى لها محمد فراح بقوة كمسرحي ومناضل داخل دار الشباب بوشنتوف، التي لعبت دورًا كبيرًا في تهيئة الوعي الفني والمسرحي لديه. في وقت كان المسرح يعيش ضربًا من اللامفكر فيه داخل الثقافة المغربية، نظرًا لقوة وفتنة الشعر وما كان يمارسه من سحر على محمد فراح وهو لا يزال يافعًا ليتوج بداياته الفنية بعمل شعري موسوم بـ"السيف والأكفان البيضاء" سنة 1980، ثم "المسرح المغربي بين أسئلة الكتابة الإبداعية والممارسة النقدية"، "الخطاب المسرحي وإشكالية التلقي: نماذج وتصورات في قراءة الخطاب المسرحي" وغيرها من الأعمال المسرحية المتميزة، التي أغنى بها الخزانة المغربية على مدى سنوات اشتغاله.

تجربة محمد فراح امتداد عميق للذين يشتغلون بدون كلل أو ملل على مواضيع مرتبطة بالتحولات السياسية والاجتماعية

ينتمي محمد فراح بمنطق المجايلة إلى جيل السبعينيات، وهو جيل راهن في كتاباته (شعر، قصة، مسرح) على البعد السياسي/الأيديولوجي داخل النص الأدبي والفني، الذي ظل يغلف متونه ويحد من أفقه الجمالي، نظرًا لطبيعة المرحلة السياسية الحرجة، بين النظام المغربي وحركات التحرر الوطني، التي كان يتبناها اليسار المغربي، لذلك جاءت النصوص المسرحية السبعينية عبارة عن صراخ وعويل تجاه المرحلة.

اقرأ/ي أيضًا: المسرح المغربي والحركة الوطنية.. محمد القري أنموذجًا

لكن البعد الجمالي والمعرفي داخل النص المسرحي سيتبلور بشكل شحيح في ما بعد داخل جيل الثمانينيات، الذي سيجد موطنًا رحبًا فيه. وعلى الرغم من ضراوة الساحة المسرحية اليوم وما تعيشه من ابتذال فني، يحاول محمد فراح منذ زمن، أن يخط لنفسه مسارًا مسرحيًا مغايرًا عن أقرانه داخل الحركة المسرحية بموضوعات جد جريئة تمتح عوالمها التخييلية من قاع المجتمع المغربي، بعيدًا عن ثقافة الاستهلاك والترفيه والضحك، التي بات يحبل بها المسرح المغربي مؤخرًا. وكأننا قطعنا كل تلك الأشواط الطويلة من الحداثة المسرحية لنصل فيها إلى مرحلة متقدمة نستلقي فيها أمام الخشبة لنضحك. فالوجود عند هولاء ليس وجودًا بالشعر ولا بالتشكيل ولا بالرقص ولا بالموسيقى داخل الخشبة، وإنما هو وجود تحتكم طرائق تشكيل موضوعاته إلى الكوميديا بطريقة يسخرون من ذواتنا ومن ماضينا المسرحي، الذي بنى مجده ثلة من المسرحيين الكبار ممن يشهد لهم تاريخ المسرح المغربي ببصمتهم إبان السبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم داخل دور الشباب المغربية، خاصة بالحي المحمدي ودار الشباب بوشنتوف بالدارالبيضاء، التي شكلت مرتعًا لأحلام محمد فراح الثقافية والفنية، وما لعبه فراح رفقة أقرانه داخل هذا الفضاء الجمعي من أدوار طلائعية في تكريس الفعل المسرحي والنضالي إبان فترة جريحة من تاريخ المسرح المغربي، والتي عمل من خلالها على إرساء دعائم مسرح مغربي جديد أكثر التحامًا بالواقع المغربي وهمومه .

تجربة محمد فراح، هي امتداد عميق لهذا النوع من المخرجين، الذين يشتغلون بدون كلل أو ملل وبدون دعم مادي من جهة ما على مواضيع فكرية وسياسية مرتبطة بالتحولات السياسية والاجتماعية، التي شهدها المجتمع المغربي منذ الاستقلال إلى اليوم، ثائرًا بذكاء على القوالب المسرحية، التي دأبنا عليها في المسرح المغربي بتقليدانيته المملة، بكل مكوناته الفنية من موسيقى وديكور وملابس وموضوعات اجتماعية يتم التعبير عنها بطريقة مزرية ومألوفة أشبه بفيلم هندي ساذج، يجعل المشاهد المغربي البسيط دوما يتطلع ويتوقع نهايته.

النص المسرحي عند محمد فراح لا يرتكن إلى هذا الطرح، بقدر ما يعمل على جعل الخشبة فضاء رحبًا ومختبرًا للتفكير ومساءلة اللامفكر فيه داخل المجتمع المغربي، وطرح الأسئلة القلقة/ الحرجة حول ما آل إليه واقعنا السياسي والديني والاجتماعي، بكافة تمظهراته وتمفصلاته داخل المجتمع بكل ألوانه دون مواربة  أو تضليل. انطلاقًا من رؤية المخرج المدهشة في تعرية واقع المجتمع المغربي بلغة عارية ونقد جذري  لمختلف تصوراته ومواقفه.

"حنظلة والموازين المختلة"، "سنمار والنار والحصار"، "عالم بلا ضوابط"؛ عناوين لمسرحية واحدة كتبها فراح منذ زمن، وقدمت في عدة عروض مسرحية ناجحة داخل المغرب وخارجه، من لدن جمعية الرواد للمسرح والثقافة بإخراج عبد الوهاب عيدوبية، ثم قدمت في مدينة السليمانية بالعراق في مهرجان المسرح الثاني ببغداد سنة 1990 بإخراج من الفنان العراقي عصمان فارس. تحكي مسرحية "حنظلة والموازين المختلة"، التي صدرت في كتاب سنة 2017، قصة شخصيات مختلفة ظاهريًا ومتوحدة في موضوع واحد، وهو البحث عن المفقود وانتظار الموعود ومن أبرز هذه الشخصيات، نجد شخصية حنظلة الباحث عن الهوية والمتمرد على القوانين السائدة، التي لا تفيد الشأن العربي بشيء، بل إنها تجعله عقيمًا وضعيفًا وخائفًا، وأكثر من هذا عبدًا مكبلًا لا يستطيع الجهر والصراخ في وجه الظلم والاستبداد، إذ تحكي لنا شخصية دعد عن رحلة حنظلة، الذي ينطلق من رغبة في تغيير الواقع ومعانقة وطنه وهويته الضائع. حنظلة الذي ظل يطارد الحب والذي لا يمكن أن يكون، إلا إذا آمنا بما نريد وضحينا بأنفسنا لأجله جميعًا.

يعمل النص المسرحي عند محمد فراح على جعل الخشبة فضاء رحبًا ومختبرًا للتفكير ومساءلة اللامفكر فيه داخل المجتمع المغربي

كما أن نكران الذات الفردية لصالح الجماعة في هذه الرحلة ستبرز بقوة، إذ سيصطدم حنظلة بشخوص أخرى والتي تمثل لنا الجهل والاستسلام والخضوع للسلطة العليا، لكن سرعان ما سيبدأ الحوار فيما بينها، فيتضح لنا بشكل تدريجي وعيها بما يحوم حولها، لكنها اختارت الغموض وعدم الإفصاح عن مواقفها خوفًا من مصيرها. لذلك يبقى حنظله الثائر/ الغاضب/ الواضح/ المنحاز لمن هم في طبقته يعانون كالفقراء والضعفاء واليتامى والأرامل، الذين ينامون في الشوارع وممن شردوا من بيوتهم اغتصبوا أصوتهم، حينها قرّروا جميعا الصراخ.

اقرأ/ي أيضًا: مترو "فرانسوا تروفو" الأخير.. عبور مسرحي

ولتأكيد واقعيته ببراعة، استند محمد فراح في مسرحيته، التي حصلت على جائزة أفضل نص في المهرجان الوطني 33 لمسرح الهواة بالرباط، على لغة أكثر تقريرية ومباشرة أكثر عريًا وانغراسًا في قاع المجتمع العربي، ليصير الخطاب أحيانًا استفزازًا للمشاهد وأكثر عنفًا.

وهو في الحقيقة يتماشى مع جوهر الموضوع المطروق، فلا يمكن التعبير عن القضية المطروحة إلا من خلال لغة محمومة بالواقع وأكثر عنفًا وتعرية للواقع الاجتماعي، وقد اعتمد فراح بالإضافة إلى العنوان الرئيسي عناوين فرعية من خلال تقسيمه للمسرحية إلى 8 أنفاس: "ارفعوا الستار لنمثل"، "الطبل يغني والكل يغني"، "كنت الباحث وكنت القضية".. والتي شكلت لنا مجموعة من الإرشادات التي تهيئ القارئ وتجعله متحمسًا للدخول إلى عالم النص، الذي من خلاله جعلنا نسافر مع الشخصيات، التي نجدها بين الفينة والأخرى تتخبط بين مرارة الواقع والرغبة في تغييره وبحثها الدائم على مكان لها داخل هذا الواقع العربي الذي يطبعه الصراع والخوف والقمع، فكل الشخصيات نجدها تختزن أحاسيس دفينة تخنقها وتجعلها تائهة وحائرة تنتظر فرصة للبوح، بالرغم من أنها تتظاهر باللامبالاة، لكن السبب هو القيود التي تطمح في سرها بأن تتخلص منها وأن تتوحد جلها في كلمة واحدة تجمعها وهذا ما يصارع لأجله الشخصية الرئيسية حنظله، الذي اختار السفر للبحث عن هويته، لكن حنظلة الشخصية المسرحية لم يكن أكثر حظًّا من الشخصية الكاريكاتورية، إذ أنهما لا تتوقفان عن البحث على هوية ضائعة في عالم يشرد بقسوته كل شيء جميل.

استندت نصوص محمد فراح على لغة مباشرة، أكثر عريًا وانغراسًا في قاع المجتمع العربي

محمد فراح مناضل وقامة كبيرة في المسرح المغربي، علينا كجيل جديد أن ننتبه له ونتبنى تنظيراته بجرأة، ونعانق أفقها المعرفي، لما تتيحه لنا نصوصه القوية من أرضية فنية صلبة، والتي تمتح عوالمها التخييلية من الواقع المغربي إبان لحظة مؤسسة في تاريخ الثقافة المغربية، فترة لا نزال نعيش أحزانها، ومع ذلك لا يمكن أن ننكر الدور الكبير الذي لعبه محمد فراح وأقرانه من جيل السبعينيات والمتمردين على الأشكال الثقافية التقليدية التي حاولت بعض الأحزاب اليمينية فرضها داخل المجتمع في تلك الفترة. وأيضًا مما خلقوه من فوران ثقافي وسياسي داخل دور الشباب المغربية التي تعيش اليوم على ماضي أمجادها.

اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "صاحب الكرمل".. فلسطين التي نشتهي

يقول فراح في نهاية المسرحية على لسان حنظلة: "أليس مشروعًا أن أسأل عن سر محاصرتي، أليس مشروعًا أن أفضح كل الوصوليين، أليس مشروعًا أن أسأل كل هؤلاء.. من أنا؟ حان الوقت لنتساءل جميعًا، حان الوقت لنعيد النظر في مواقفنا وأقوالنا وأفعالنا، حان الوقت لأنزل إليكم وأسألكم عن حقيقة حنظلة الضائع، حان الوقت لإيقاف السماسرة... أنا راحل عنكم من جديد، وسأعود، ملحًا وسمادًا للأرض البكر العذراء، سأعود سحابًا ممطرًا أسقي الحقول، في سكة المحراث سأعود إليكم، في عجلة الجرار، في دفاتر الأطفال في ضفائر البنات في لعب عاشوراء سأعود".

 

اقرأ/ي أيضًا:

المسرح يوحّد المغرب العربي.. مهرجان مشترك في الأفق

هل يمكن أن تتحول رحلة أبو خليل القباني إلى أمريكا إلى فيلم سينمائي؟