22-أبريل-2018

إن كانت الدولة القومية واقعًا الآن، إلا أنها تتآكل تدريجيًا وتصير أكثر هشاشة بمرور الوقت (الغارديان)

في عصر هستيريا الشعبوية، والترويج لإقصاء الآخر، وموجات اللجوء التي أججت حماسة السياسة القومية في الغرب، وحولتها إلى أداة تُستخدم لاستمالة الناخب المنزعج من تدفق "الغرباء" إلى بلاده.. في هذا العصر، تُطرح أسئلة شتى حول الدولة القومية: هل هذا عصر صعود نجمها، أم أن ما سبق ذكره ليست إلا أعراضًا لأفولها وصعود أشكال أخرى بديلة لها؟

يشهد العالم الغربي صعودًا لما يمكن تسميته بـ"هيستيريا الشعبوية" والترويج لإقصاء الآخر ومناهضة القيم التي لطالما تفاخر بها الغرب

مؤشر الهسيتريا القومية في العالم

في الولايات المتحدة كان صعود دونالد ترامب إلى سدة الحكم تحت شعار: "أمريكا أولًا" و"جعل أمريكا عظيمة مرة أُخرى"، أحد أكثر المؤشرات دلالة على هيستيريا الشعبوية العالمية. أما في بريطانيا ففي الورقة الصادرة في الثاني من شباط/فبراير 2017، والتي تتحدث عن إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي، صرحت الحكومة البريطانية تصريحًا خطيرًا، قالت فيه: "في حين ظل البرلمان يتمتع بالسيادة طوال عضويتنا في الاتحاد الأوروبي، فإنه لم يكن دائمًا يشعر بذلك".

اقرأ/ي أيضًا: الشعبوية في أوروبا.. تيار يجرف حتى الأحزاب "المعتدلة"

وبالتالي فقد كان السؤال الذي يطرحه البريكست ليس سؤال الاقتصاد ولا السياسة، ولكنه سؤال "علم النفس القومي"، حيث إن حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، لعبت على وتر "الخوف من أوروبا"، وأوهام الإمبراطورية الإنجليزية القديمة التي لم تعد إمبراطورية، بل عضوًا على قدم المساواة مع دول أخرى في كيان واحد هو الاتحاد الأوروبي.

أما في فرنسا فقد وصفت الغارديان نجاح إيمانويل ماكرون على مارين لوبان، بأنه "مثل شخص قد نجا بأعجوبة من أزمة قلبية، وهكذا يمكن لأوروبا أن تشرب نخب انتصار إيمانويل ماكرون. لكن نصف الكوب الملآن ليس ممتلئًا كما يبدو، وإذا لم تغير أوروبا طُرقها، فلن يؤدي ذلك إلا إلى مجرد تأجيل اليوم المشؤوم المحتوم".

أما في إسبانيا فقد مثلت مشاهد اعتقال المصوتين على استفتاء انفصال إقليم كتالونيا، والعنف الذي مارسته شرطة مدريد بحقهم؛ تجسيدًا لمشاعر العبثية التي شعر بها الإسبان في طريقة تعامل الدولة مع استفتاء كتالونيا. حتى أن صحيفة إلبايس الإسبانية نشرت حينها مقالًا يشكك في النظام الديمقراطي، تحت عنوان "النظام الديمقراطي يعرُج".

أما الانتخابات الأخيرة في إيطاليا فبدت وكأنها تعاقب المؤسسة التقليدية الحاكمة، لتنتصر عليها من خلال حركة "النجوم الخمسة"، المناهضة للمهاجرين واللاجئين، والمناهضة للاتحاد الأوروبي، وقد وصفت التصويت لها بأنه "تصويت عقابي" ضد أداء الحكومة الإيطالي بسبب تفشي البطالة واستقبال المزيد من اللاجئين.

وفي ألمانيا وصل اليمين المتطرف أيضًا إلى البرلمان، متمثلًا في حزب البديل من أجل ألمانيا الذي يوصف بأنه "حزب الفاشيين الجدد".

بالطبع لا يمكن القول إن هذه الرؤى والسياسات "المتشنجة" حكر على أوروبا والولايات المتحدة، فدعم الفاشية محليًا هو أمر بات رائجًا في جميع أرجاء العالم؛ في المنطقة العربية، وفي الهند وهنغاريا وميانمار، ودول متعددة في آسيا وأفريقيا.

لكن يبقى السؤال: هل هذه الهستيريا العالمية، دليل على صعود مفهوم الدولة القومية على حساب كل شيء، أم دليل ضعف مفاصل هذه الدولة، وعدم قدرتها على أداء وظيفتها من باب الكفاءة؟

عصر أفول الدولة القومية؟

في الحقيقة يبدو أن الدولة القومية تتجه كل حين نحو الفشل. حيث إن الهياكل السياسية لدولة القرن العشرين، لم تعد كُفأة في التعامل مع معطيات القرن الـ21، وكأنها غارقة في محيط القرن الجديد، لأسباب عدة منها التكنولوجيا والتشدد الديني والتنافس بين القوى العظمى، ما أدى إلى تشظي الدول وإرغام السكان على العودة إلى مظاهر ما بعد القومية: المليشيات القبلية المتجولة، والدوائر العرقية والدينية والأيديولوجيات الفاشية.

تتجه الدولة القومية نحو الفشل، حيث إن الهياكل السياسية لدولة القرن العشرين لم تعد كفأة في التعامل مع معطيات القرن الـ21

في الحالة السورية تحديدًا تبدو الفكرة أكثر وضوحًا، فقد كانت "المليشيات" سببًا من أسباب تقدم الجيش النظامي السوري لبعض الوقت على الأرض في الحرب. يذكر الباحث خضر خضور أن  هذا بالتحديد ما عمل الجيش السوري على بنائه في عمق تراتبيته، حيث نرى على مستوى المناطق المختلفة أنه كان لنظام القطاع دور كبير في تعزيز الوجود العسكري للجيش السوري على الأرض من خلال شبكة من الضباط والشخصيات البارزة التي ترتبط مع بعضها البعض من خلال الطائفية وصلات القرابة فيما بينها، ومن خلال التنظيم المناطقي للفرق القتالية، حيث تتمركز كل فرقة قتالية في منطقة محددة، ولكل منها مناطق تدريب ومخازن وقود ومستودعات ذخيرة ومعدات ومساكن عسكرية ووحدات إدارية تسمى جميعها بالقطاعات.

اقرأ/ي أيضًا: الجيش في سوريا.. من عقائدية المؤسسة إلى مليشيا العائلة وطائفيتها

وتحصن كل فرقة في قطاع ما، جعل كل ضابط يشعر أن مهنته وحياته وحياة عائلته مرتبطة بالقطاع الذي يتواجد فيه مع فرقته. في المقابل يمنح الجيش النظامي السوري تفويضًا مطلقًا لقائد القطاع للتصرف بالمنطقة التي يُشرف عليها. وقد أسس حافظ الأسد هذا النظام عام 1984. ليحول دون تحدي سلطته من قبل قادة القطاعات، كان يعمل على تأليب بعضهم على بعض حتى يبقى ولاؤهم المطلق للسلطة المركزية.

على الجانب الآخر من العالم، هناك ما تسمى بـ"دول الرفاه" التي أصبح مواطنوها غارقين في خيبات الأمل وهم يرون أثرياءهم والأثرياء عمومًا من جميع أنحاء العالم، يهربون بشكل متزايد من الولاءات القومية بشكل كامل، ويقومون بتحويل الأموال من الحيز الوطني تمامًا إلى منطاق "ساحلية" مزدهرة (الملاذات الضريبية).

هذه التريليونات الهاربة تقوض المجتمعات الوطنية بطرق حقيقية ورمزية، ويمكن اعتبارها سبب للتفسخ الوطني، ولكنها أيضا نتيجة؛ فقد فقدت الدول القومية هالة أخلاقيتها، وهو أحد الأسباب التي جعلت التهرب الضريبي أساسًا مقبولًا للتجارة في القرن الحادي والعشرين.

هل هناك بديل للدولة القومية؟

منطقيًا على المدى القصير، أي بديل للدولة القومية سيعد استحالة خيالية، لولا أن العالم يتغير بسرعة كبيرة، فحتى الإنجازات التكنولوجية في العقود القليلة الماضية كانت غير قابلة للتصديق، حتى نُفذت بالفعل.

إذن، وكما تقول الغارديان، فثمة أسباب وجيهة للتشكك في ما تسوقه السلطات القائمة من أنه من غير الممكن إيجاد بديل عن الدولة القومية، بديل يتمتع فيه البشر باستقلالية أكبر.

في الواقع، كانت هناك لحظات كثيرة في التاريخ شهدت توسع السياسة ذاتها فجأة إلى نطاق جديد لا يمكن تصوره من قبل، بما في ذلك إنشاء الدولة القومية نفسها، بعد عصور الإمبراطوريات المتتابعة.

وهناك اعتقاد أن المرحلة التالية من الثورة التقنية والمالية، ستكون أكثر كارثية بالنسبة للسلطة السياسية بشكلها الحالي، سواء على مستوى الشركات أو خارج الإقليم. فكما ظهرت العملات الرقمية، ستظهر تكنولوجيات جديدة لتحل محل الوظائف الأساسية الأخرى للدولة القومية.

بشكل أو بآخر، تلعب التكنولوجيا إذن دورها الرئيسي في تقويض قدرة وكفاءة الدولة القومية وأنظمتها البيروقراطية العتيقة. غير أن هناك استخدام آخر يُرسخ لهذه الدولة عبر التكنولوجيا، كما هو الحال في الصين.

وبخصوص تاريخية الدولة القومية وكفاءة بنائها، فقد اصبحت الدولة القومية نموذجًا عالميًا للتنظيم السياسي البشري، فقط بعد الحرب العالمية الأولى. وبعد ذلك أصبحت عضوًا في مجتمع "الأمم المتحدة"، وهو مجتمع عالمي رسمي بمؤسساته العالمية الخاصة، وهي مؤسسات أثبتت أنها فاشلة تنظيميًا وأخلاقيًا في الكثير من الحالات.

تلعب التكنولوجيا دورًا رئيسيًا في تقويض قدرة وكفاءة الدولة القومية وأنظمتها البيروقراطية العتيقة

لذا، فيرجح أن واقع الدولة القومية سيظل موجودًا، قبل أن يتآكل تدريجيًا -وها هو يفعل- وسيكون أكثر هشاشة بحيث يصبح اختراقه أمرًا عاديًا، ولعل تجربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في اختراق دولتين قوميتين، بل والمساهمة في انهيارهما، وإن كانت تجربة مُؤقتة، إلا أنها علامة على ما قد يفضي إليه المستقبل بصورة أو بأخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل يكون 2018 عام الثورة المضادة على مكتسبات انتفاضة 1968 في أوروبا؟

عقيدة الصدمة الغربية