06-فبراير-2018

باتت الشعبوية في أوروبا تمثل تيارًا جارفًا سياسيًا وأيديولوجيًا (EPIC)

أعدت مجلة إيكونوميست مادة تحليلية مطولة حول اليمين الشعبوي في أوروبا، لقياس مدى انتشاره سياسيًا وأيديولوجيًا، والأسباب السياسية الأكثر ارتباطًا بهذا الانتشار أو "الصعود المتواصل" كما أسمته المجلة. وفي السطور التالية ننقل لكم المادة مترجمةً بتصرف.


في صباح أحد أيام شهر كانون الثاني/يناير، وبينما كان الجليد يغطي طرقات المدينة، كانت الأضواء والتوهج الصادر من المقاهي الأنيقة تضيء شوارع هسلهولم السويدية الأنيقة، حيث تفتح مكاتب التوظيف أبوابها في وقتٍ واحد، في حين تدعو الملصقات الموضوعة على نوافذ المتاجر، السكان المحليين إلى تناول قهوة الصباح مع بعض المهاجرين، متسائلين: "ماذا يمكنك أن تفعل لجعل السويد أكثر انفتاحًا؟". 

قياس الصعود المتواصل لليمين الشعبوي المتطرف، في أوروبا تحديدًا، يكون عقدًا بعد عقد وليس عامًا بعد عام

للوهلة الأولى، يمكنك أن ترى أن كل صورة نمطية عن البلاد تتحقق في هذه المدينة الصغيرة: فهي مزدهرة ومريحة، وليبرالية، ولكنها في العام الماضي أصبحت مركزًا لعاصفة سياسية.

اقرأ/ي أيضًا: هل تحكم الشعبوية المجتمع الغربي؟

رفض السياسيون السويديون الرئيسيون، التعاون بأي شكلٍ من الأشكال مع الحزب الديمقراطي السويدي (SD)، وهو حزب شعبي يميني ذو جذور متطرفة، منذ تأسيسه في عام 1988. وفي عام 2015، وصف فريدريك راينفيلدت، رئيس الوزراء السابق، والذي لا يزال زعيم جبهة يمين الوسط، قيادة الحزب الديمقراطي السويدي، بأنهم "عنصريون ويكرهون الأجانب". 

ولكن في العام الماضي، استخدم المعتدلون (الوسط) دعم الحزب الديمقراطي السويدي للإطاحة بالحكومة المحلية اليسارية في هسلهولم، وانتخاو باتريك جونسون، الزعيم الإقليمي للحزب الديمقراطي السويدي، نائبًا لرئيس المجلس الجديد!

وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر، اعتمد المجلس ميزانية الحزب الديمقراطي السويدي، والتي من شأنها أن تقلل من الإنفاق على التعليم والرعاية الاجتماعية للمهاجرين، وبناء حمام سباحة جديد للسكان المحليين بدلًا من ذلك. وأعلن جونسون قائلًا: "نريد فقط إغلاق أبواب هسلهولم". 

وعن هذا، قال بيرلسون، وهو كاتب عمود في صحيفة "سيدسفنسكان" المحلية، إنه يشعر بالجزع: "بدأ ينتابني شعور متزايد بأن الديمقراطية الليبرالية شيء اعتبرناه أمرًا مفروغًا منه لفترة طويلة".

ورأى بعض السياسيين الأوروبيين في عام 2017، انتكاسة جديرة بالترحيب لصعود الشعبوية التي انتشرت في جميع أنحاء القارة. وبعد عام 2016، الذي سَجل فيه تأييد أحزاب مثل الحزب الديمقراطي السويدي مستويات قياسية، وصوتت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأظهرت استطلاعات الرأي تراجع شعبية الشعبويين (انظر الرسم البياني). وخسرت مارين لوبان، زعيمة الجبهة الوطنية (FN) انتخابات الرئاسة الفرنسية لصالح إيمانويل ماكرون، كما ظهر حزبها ضعيفًا في الانتخابات اللاحقة للجمعية الوطنية الفرنسية (تكوّن مع مجلس الشيوخ الفرنسي، البرلمان الفرنسي الحالي للجمهورية الفرنسية الخامسة). 

في المقابل، حين نجح حزب البديل من أجل ألمانيا، في الوصول إلى البوندستاغ (مجلس النواب الاتحادي الألماني) للمرة الأولى، ولكن ليس بدرجة تمثل تهديدًا حقيقيًا للسياسة المعتدلة. وعلى الجانب الآخر فشل حزب من أجل الحرية وحزب الحرية النمساوي، وهما حزبين يمينيين متطرفين، في تحقيق النتائج المتوقعة لهما في انتخاباتهما الوطنية.

ومع ذلك، فإن الصعود المتواصل للشعبوية هو أمر يُقاس بالعقد، وليس على أساس سنوي، أو بتعبيرٍ آخر: هو أمر يُقاس عقدًا بعد عقد وليس عامًا بعد عام. 

وقد ساهمت الأزمة المالية وتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين، في حدوث ارتفاع ملحوظ في الشعبوية، لكن الشعبوية داخل المجتمع الأوروبي، شهدت نموًا مطردًا بالفعل منذ ثمانينات القرن الماضي. ووفقًا لدراسة جديدة أجرتها ياشكا مونك من جامعة هارفارد، بالتعاون مع آخرين من معهد توني بلير، كان التصويت الشعبوي في دول الاتحاد الأوروبي، في المتوسط، بنسبة 8.5٪ في عام 2000، ولكنه بلغ 24.1% في عام 7201. 

وجديرٌ بالذكر أن هذه الزيادة الكمية، تؤدي إلى حدوث تحولات نوعية في سياسات القارة. وكما يظهر في هسلهولم، فإن الشعبويين باتوا لا يخشون التيار الديمقراطي كما كان الحال، بل إنهم يدعون بشكلٍ متزايدٍ إلى تكوين الائتلافات.

ويتسم تعريف الشعبوية بالتباين غير الموضوعي، ولكن العلوم السياسية تقدم بعض المبادئ التوجيهية، فمثلًا يميز "جان فيرنر مولر" من جامعة برينستون، الشعبوية، بمطالبتها الحصرية بتمثيل "شعب نقي الأخلاق وموحد تمامًا"، الأمر الذي تروج الشعبوية أن "النخبة الفاسدة" قد خانته، أو بطريقة اُخرى يمكن وصف تلك النخبة بوجهة النظر الشعبوية، بأنه "نخبة غير أخلاقية". 

وتُهاجم الشعبوية، القضاة والصحفيين والبيروقراطيين التي تعتقد أنهم لا يقفون إلى جانب الشعب. كما تزعم أنها تتحدث بلغة الغالبية الصامتة عن الإهانات القومية والنظم المزورة، كما أنها ترفع الشعارات من قبيل "نحن الشعب"، مثل حركة بيغيدا المعادية للإسلام في ألمانيا، وأيضًا "استعادة السيطرة"، وهو الشعار الذي يرفعه المؤيدون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، و"هذه بلدنا" الشعار الذي ترفعه الجبهة الوطنية في فرنسا. وفي الولايات المتحدة هناك شعار "جعل أمريكا عظيمة مرة أُخرى".

ويلاحظ كاس مود من جامعة جورجيا، أن الشعبوية هي أيديولوجية "ضعيفة"، فهي قد تحسب على اليسار، أو على اليمين، بل بإمكانها أن تخلق هجينًا خاصًا بها ، مثل حركة "النجوم الخمسة" (M5S) التي تتصدر استطلاعات الرأي الإيطالية في الفترة التي تسبق الانتخابات العامة المزمع إجراؤها في شهر آذار/مارس المقبل. 

والشعبوية يمكن أيضًا أن يمارسها السياسيون الذين لا تصرح أحزابهم بانتمائها للفكر الشعبوي، ويمكن لهؤلاء السياسيين الاشتراك في رؤية "الشعب" بصورة متجانسة وحصرية. ويمكنهم الدفاع عن الأقليات والقضاء والصحافة الحرة إلى حدٍ ما؛ ويمكنهم اختيار الصدق حول المقايضات السياسية، عن الركون إلى تقديم كبش فداء مريح في كثير من الأحيان. ويمكن لأحزابهم التقدم ببطء على طول الطريق مع مرور الوقت. وكذلك يمكن للمجتمعات كلها أن تفعل المثل.

وفي هذا الصدد، بالإمكان النظر إلى المجر باعتبارها نموذجًا لذلك، إذ نما حزب "فيدس - الاتحاد المدني المجري"، أحد أكبر الأحزاب المجرية، بقيادة فيكتور أوربان رئيس الوزراء الاستبدادي في البلاد، من الحركة المناهضة للشيوعية، وحَكَم البلاد كحزب محافظ تقليدي إلى حدٍ ما في مطلع القرن الحالي. إلا أن أوربان، الذي كان تحت ضغط من حزب يوبيك (الحركة من أجل مجرٍ أفضل)، وهو حزب يميني متطرف تأسس في عام 2003، الذي يسستخدم بشكل متزايد شعار "إرادة الشعب"، وقد تمادى أوربان في شيطنة المهاجرين والأقليات ولا سيما المسلمين، ومهاجمة السلطة القضائية وتجفيف مصادر المعارضة.

كما أنه يطالب بأن يمنحه الناخبون، في الانتخابات البرلمانية التي ستُجرى في شهر نيسان/أبريل، تفويض لمجابهة جورج سوروس، الملياردير المجري المولود في الولايات المتحدة، الذي أسس جامعة أوروبا الوسطى في بودابست، والذي يتهمه أوربان، بأن لديه خطة سرية لإغراق البلاد بالمزيد من المسلمين. والآن معظم المراقبين يرون أن حزب فيدس، قد تلبس تمامًا بالأيديولوجية الشعبوية. 

وفي مكان آخر، فإن تشابك الأحزاب الرئيسية مع السياسات الشعبوية والطريقة الشعبوية تتم بطرق أكثر دَهاءً. إذ إن الخيارات المتاحة أمام المعتدلين في السويد توضح العوامل المؤثرة والمهيمنة.

لم يكن النمو البطيء للحزب الديمقراطي السويدي اليميني المتطرف، كافيًا لتشكيل حكومة، كما كان الأمر مع فيدس، أو حزب القانون والعدالة في بولندا. ولكن بحلول عام 2014 نما بشكلٍ كافي نسبيًا ليجعل من الصعب على الأحزاب القائمة سواء كانت من يسار الوسط أو يمين الوسط، تشكيل تحالفات مستقرة، كما اعتادوا أن يفعلوا منذ وقتٍ طويل.

ربما يكون المعتدلون قد انضموا إلى حكومة موسعة بصورة ممتلئة من يمين الوسط ويسار الوسط، وأصبحت مثل هذه الحكومات أكثر شيوعًا عبر القارة؛ لأن نمو الأحزاب الشعبوية، إلى جانب التفتت السياسي، زاد من صعوبة بدء الائتلافات الأكثر تماسكًا من الناحية الأيديولوجية.

تقدم ألمانيا وإيطاليا وهولندا وإسبانيا في الوقت الحالي أشكالًا مختلفة حول هذا الصنف من الائتلافات، فبعضها الائتلافات رسمية، وبعضها اتفاقات تساهل أقل إحكامًا. ولا تشكل مثل هذه الترتيبات مصدر جاذبية للساسة الطموحين. كما أنها أيضًا تثير نشاط الخطاب الشعبوي عن طريق إثبات حقيقة مفادها أن الدوائر السياسية بكل تأكيد مشتركون في هذا الخطاب معًا.

كان الخياران الآخران المتاحان أمام المعتدلين، إما أن يستعينوا بالشعبويين، أو يحاولون سرقة أصواتهم. ففي آذار/مارس الماضي، أبدت آنا كينبرغ باترا، التي خلفت رينفلت في قيادة حزب التجمع المعتدل؛ ميلًا تجاه الاستعانة بالحزب الشعبوي، معلنة عن محاولتها تكوين حكومة من أنصار حزب الديمقراطي السويدي، وذلك في أعقاب انتخابات أيلول/سبتمبر، وهو ما أثار مناقشات غاضبة أدت إلى استقالتها. وانتقل خليفتها، أولف كريسترسون، إلى الخيار الثاني: "في السويد نتحدث السويدية"، حسبما أعلن بوضوح في رسالته خلال أعياد الميلاد. بيد أن تشكيل حكومة من المعتدلين مدعومة من حزب الديمقراطي السويدي لا يزال خيارًا ممكنًا.

تساعد مثل هذه الاحتمالات أكثر من أي شيءٍ آخر، في تطبيع أحزاب على شاكلة الحزب الديمقراطي السويدي. فقد شاهدت النمسا وبلغاريا وفنلندا ولاتفيا وهولندا والنرويج في الوقت الحالي الأحزاب الرئيسية التي تحكم مع التأييد الرسمي أو غير الرسمي من الأحزاب الشعبوية. وفي سلوفاكيا، لدى حكومة يقودها يسار الوسط تريبات مشابهة. 

إذن ارتفع عدد الحكومات الأوروبية التي تضم شعبويين ضمن مجالسها الوزارية إلى 14 حكومة منذ عام 2000. وربما ينضم إلى صفوفها قريبًا جمهورية التشيك والدنمارك، حيث يقول الحزب الليبرالي الدنماركي، المنتمي إلى يمين الوسط، إنه قد يدعو حزب الشعب الدنماركي، وهو حزب يميني شعبوي يدعم الأول الآن إلى الحكومة، ليصبح شريكًا كاملًا بعد الانتخابات القادمة المزمع إقامتها في تموز/يوليو 2019.

منذ عام 2000، ارتفعت أعداد الحكومات الأوروبية التي تضم في مجالسها الوزارية، وزراء ينتمون لأحزاب شعبوية، لتصل 14 حكومة

ينظر اليسار إلى تحالفات جديدة. فللمرة الأولى، ذهب الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني في العام الماضي إلى انتخابات عامة بدون استبعاد وجود تحالف مع الحزب اليساري الألماني، وهو حزب يساري شعبوي انحدر من شيوعيي ألمانيا الشرقية. في حين تقرّب اشتراكيو إسبانيا المنتمون إلى يسار الوسط إلى اتفاق مع حزب بوديموس الذي ولد من رحم احتجاجات جابت الشوارع ضد التقشف.

اقرأ/ي أيضًا: أين ينتصر الشعبويون في العالم؟..ولماذا؟

ويشير كل هذا إلى أن المد الشعبوي يستمر في الصعود، فقد وجد "يوست فان سبانيا" من جامعة أمستردام، عبر تحليل 296 من الانتخابات الأوروبية التالية للعام 1945، أن الصورة العامة تشير إلى أن الترحاب بالأحزاب، التي كانت تُتجنب سابقًا، للانضمام إلى الأحزاب الرئيسية لا يميل إلى تخفيض دعمها.

أصدق صور التملق

منذ أيامهم الأولى، وارتبط الشعبوين في كثير من الأحيان، ارتباطًا وثيقًة بالعنصرية الصريحة. إلى جانب ذلك فإنهم من داخلهم فوضويون ومعرضون للانقسام، ولا يزال البعض منهم معرض لذلك مثل حزب استقلال المملكة المتحدة البريطاني. بينما البعض الآخر، الذي تذوق أو شم رائحة السلطة، فقد جمعوا شتاتهم وبدأوا في العمل معًا.

ويُعد حزب الحرية النمساوي مثالًا على ذلك، فقد كان الحزب فوضويًا ومُشوّشًا خلال دوره السابق في الحكومة منذ عام 2000 إلى عام 2007، ولكنه عاد إلى السلطة الوزارية في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي بصورة أكثر رصانة، بعد أن بذل جهودًا لينأى بنفسه بعيدًا عن الشبكات الاجتماعية النمساوية اليمينية المعروفة باسم "الأخويات". ووفقًا لكاس مود من جامعة جورجيا، فإنه "يتوقع أن يكون حزب الحرية النمساوي أكثر انضباطًا وفعاليةً هذه المرة".

ويتضمن جزء من هذا التنظيم، وضع السياسات العامة الرامية إلى توسيع نطاق الدعم الذي يتأتى عادةً من الطبقة العاملة، في حين أن الناخبين الذين يؤيدون الأحزاب السياسية مثل حزب بوديموس في إسبانيا، وحركة النجوم الخمسة في إيطاليا، عادةً ما يكونون أصغر سنًا وأكثر تعلمًا وثقافةً من المتوسط. 

كما أن أفضل مؤشر على دعم الشعبويين اليمنيين في الشمال، يكون في المعتاد مدى صغر عُمر الفرد عندما ترك التعليم المدرسي الرسمي، بالإضافة إلى أن الفوز على المزيد من الناخبين البرجوازيين، يؤدي إلى تقويض رسالتهم في بعض النواحي. ومن ثم أصبح نهج حزب الحرية النمساوي ضد الاتحاد الأوروبي أقل حدة مما كان عليه في السابق. وينطبق الشيء نفسه على الجبهة الوطنية، والتي تقدم نفسها الآن باعتبارها حصنًا مؤيدًا بقوة لإسرائيل، وكذلك الحال بالنسبة لحزب الشعب الدنماركي وحزب البديل من أجل ألمانيا.

ثمة جزء آخر يتعلق بالخبرة المُكتسبة في حكومات الولايات وإدارة المجالس البلدية، مثل مدينة فيلز في ولاية النمسا العليا، التي تقع بالقرب من مدينة لينز، حيث توفر السياسة دون الوطنية وسيلة جيدة للحصول على القبول من قِبل الناخبين. وقد ساعدت حكومة المدينة في شمال إيطاليا الشعبويين في حزب رابطة الشمال، بينما في إسبانيا أضفى رؤساء البلديات المتحالفة مع حزب بوديموس في مدينتي مدريد وبرشلونة، صورةً وطنيةً أقوى للحزب. بيد أن السلطة المحلية لا تمُثل دائمًا نقطة إيجابية، إذ تسببت فضائح الفساد وأكوام القمامة المُلقاة في شوارع روما، في عهد العمدة فيرجينيا رادجي، في تدمير حزب حركة النجوم الخمسة.

وتُمثل الحكومة النمساوية الجديدة نموذجًا للنوع الثاني من استيعاب التيار الشعبوي الذي ينسخ أفكار الشعبويين، ففي الحملة الانتخابية، انفصل حزب الشعب النمساوي القائم حاليًا والذي يُعد الآن الحزب الأكبر في الائتلاف، وبدون خجل، عن سياسات حزب الحرية النمساوي، بما في ذلك حظر ارتداء النقاب وخفض حقوق الضمان الاجتماعي للمهاجرين. وأظهرت أحد الرسوم الكاريكاتورية في صحيفة" كورير"، زعيم حزب الحرية النمساوي، هاينز كريستيان ستراتش، عاريًا في مركز للشرطة، ويرافقه تعليق: "أخذوا كل شيء!"

وتُعد هذه "الإصابة بالعدوى"، كما يصفها خبراء السياسة، واضحةً في جميع أنحاء القارة. فقد تصدر مارك روته، رئيس الوزراء الهولندي المحافظ الليبرالي، الريادة، لتبنيه لأسلوب سياسي يميزه عن هذا "النوع الخاطئ من الشعبوية". إذ أصدر حزبه قبل انتخابات العام الماضي، بضغطٍ من حزب "من أجل الحرية" وحزب "منتدى من أجل الديمقراطية"، وهو حزب قومي شعبوي جديد، إعلانات لحث الأجانب على "التصرف بشكلٍ طبيعي أو المغادرة".

وفي عام 2016، حشدت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، حزبها لمهاجمة ما وصفتهم بأنهم "مواطنون لا مكان لهم"، وأشارت إليهم في خطاب وصفتهم فيه بـ"الذين يجدون وطنتيك مخيفة، ومخاوفك بشأن الهجرة أنانية، وآراءك حول الجريمة متعصبة، وتمسكك بأمن وظيفتك مزعج".

غير أن مثل هذا الخطاب لا يُمكن إلا أن يأتي من حزب استقلال المملكة المتحدة. وفي شهر كانون الأول/ديسمبر، اختار الجمهوريون الفرنسيون لوران ووكيز زعيمًا لهم، وهو متشكك في الاتحاد الأوروبي، ومعارض لزواج المثليين، كما يطمح في خفض الهجرة إلى "أدنى حد ممكن"، ويخطط لجعل حزبه "يميني حقيقي".

وقد اتخذ حزب الديمقراطية الجديدة في اليونان وحزب مواطنون من أجل التنمية الأوروبية في بلغاريا -اللذان يواجهان منافسة من الحزبين اللذين يُحسبان على التيار اليميني المتطرف وهما حزب الفجر الذهبي وحزب زانكينا- إجراءات أكثر صرامة ضد المهاجرين والمجموعات الأخرى.

وفي ألمانيا، دعا الحزب الديمقراطي الليبرالي الحر، بشكلٍ استثنائي، إلى ترحيل معظم اللاجئين في نهاية المطاف. بينما يتداول في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي تنتمي له المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الحديث عن "الثقافة الألمانية الرائدة" الأكثر حزمًا، وتقوية الشعور "بالوطن"، ما قد يعني أن هذا سيكون اتجاه الحزب عندما تتنحى ميركل.

وفي الاجتماع السنوي الذي عقده حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي بولاية بافاريا في شهر كانون الثاني/يناير، وهو الحزب البافاري الشقيق لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في باقي أنحاء ألمانيا؛ حل فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، ضيف شرف. كما طالب ألكسندر دوبريندت، وهو من السياسيين البارزين في الحزب، بإجراء "ثورة محافظة" ضد الأقلية الحضرية في المدن الألمانية الكبرى.

السياسة اليمينية المعتدلة، غالبًا ما تُحضر الناخبين لرسائل اليمين المتطرف، وتساعد على انتشار هذه الرسائل وجعلها أكثر جاذبية!

ويُعزو أحد الأسباب المنطقية لهذا التودد، إلى أنه يُنكَر على الشعبويين ملكيتهم الحصرية للمسائل الحساسة مثل الهوية، ما يتيح للناخبين العقلانيين التي تُمثل لهم مثل هذه المسائل أهمية؛ بديلًا لا يشوبه التطرف. ولكن في كتاب جديد صدر بعنوان "التيار الأوروبي الرئيسي واليمين المتطرف الشعبوي" (The European Mainstream and the Populist Radical Right)، يستنتج الكاتب بونتوس أودمالم، والكاتبة إيف هيبورن من جامعة إدنبره، أنه لا يوجد "نموذج  فوري"، ما يشير إلى أن توافر التيارات البديلة لليمين المتطرف الشعبوي يُضعف من الأداء الانتخابي للأخير.

اقرأ/ي أيضًا: كيف بررت بولندا دعوات اليمين المتطرف لـ"هولوكوست المسلمين"؟

 ويشير التحليل الذي قدمه رئيس الوزراء الإسباني، إلى أن مُحاكمة المتمردين الشعبويين، لا يؤدي إلا إلى إضعافهم، وخاصةً في القضايا النادرة التي يُنبذون فيها كذلك.

وفي الإشارة إلى التفاعل بين حزب استقلال المملكة المتحدة والمحافظين البريطانيين، قبل الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ يلاحظ البروفيسور تيم بيل من كلية الملكة ماري بجامعة لندن، أن "السياسة اليمينية المعتدلة غالبًا ما تُهيّئ الناخبين لرسالة اليمين المتطرف، وتساعدها على الانتشار، ثم في محاولة التصدي للنداء الذي وجهته من خلال الحديث الأكثر تشددًا، تجعل هذه الرسالة ببساطة أكثر وضوحًا ويعزز جاذبيتها بصورة متزايدة".

وفي الوقت نفسه، تتبنى السياسة اليسارية المعتدلة، المُتمثلة في الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، ما يطلق عليه الصحفي الأمريكي، جون جوديس: "الشعبوية الثنائية". وتضم الشعبوية المتمردة غالبًا ثلاثة عناصر فكرية فعالة، تلعب عليهم، وهي: الشعب والنخبة و"الآخرون" الذين يمثلون الأجانب والمهاجرين ومن تصفهم بـ"المتطفلين"، وما شابه ذلك، من الذين تقول إن الشعب بيع لهم عن طريق النخبة. وعليه تعتبر الشعبوية ثلاثية الأطراف.

وهناك دائمًا طرق أخرى لظهور السياسات الشعبوية، وإن بدون وجود حكومات شعبوية، وذلك عبر إجراء الاستفتاءات. ففي عام 2013، أيد الشعبويون الهولنديون تأييدًا محمومًا، أحد القوانين التي تُمكّن طرح أي جزء من التشريعات الأساسية للاستفتاء العام، ليُصوت 12.9 مليون مواطن على هذه الجزء من التشريع، إذا طالب بذلك 300 ألف مصوت منهم. وفي بريطانيا، أجبر التصويت على البريكست -الذي مثّل الوفاء بالطلب الذي طالما تقدم به حزب استقلال المملكة المتحدة- تقريبًا جميع الدوائر السياسية على تبني سياسة مقصورة حتى فترة قريبة على هوامشها الشعبوية.

ثلاثية اللغة ضد الثلاثية الشعبوية

لا تقلد جميع الأحزاب الرئيسية المواقف الشعبوية. فقد أنتج اندفاع "الديمقراطية غير الليبرالية"، حسبما يصفها مولر، رد فعل ارتجاعي عنيف. إذ إن السياسة التعددية المؤيدة بكل ثقة للهوية الأوروبية التي ينتهجها إيمانويل ماكرون وحزبه "الجمهورية إلى الأمام"، تضرب واحدًا من هذه الأمثلة.

ويمكن ضرب مثال آخر عبر حزب "المواطنون" الوسطي، الذي يتقدم الاستطلاعات في إسبانيا. ويحمل الحزب شعارًا يقول "كتالونيا أرضي، وإسبانيا بلادي، وأوروبا مستقبلي"؛ إذ تقال العبارة الأولى من الشعار باللغة الكتالونية، والثانية باللغة الإسبانية، ثم الثالثة باللغة الإنكليزية.

ويوجد أيضًا أحزاب أخرى جديدة مثل حزب "بولندا المعاصرة"، وحزب "حركة الزخم" في المجر، وحزب "المنتدى الليبرالي والنمسا الجديدة (نيوس)"، تتماشى جميعها مع غرور المشروع والعرض الشعبوي، بينما تجابه رؤيته العالمية. إلا أنها لا تزال صغيرة حتى الآن.

وعلى الرغم من أنه من المحتمل نمو هذه الحركات، إلا أن سيطرة الشعبويين ستنمو هي الأخرى. ولكي نحصل على لمحة لما يعنيه ذلك، يمكن النظر إلى الجيل الأخير من المشاركين السياسيين بالقارة: أحزاب الخضر. كانوا في الأساس مشاكسين، وبمرور الوقت أصبحوا أكثر احترافية وبدأوا في الانضمام إلى الحكومات المحلية بل والوطنية أحيانًا. لم يرأس أي منهم بلدًا أوروبيًا وحده حتى الآن، بيد أن نفوذهم يمكن استشعاره في الانتباه الذي يولَى الآن إلى وسائل المواصلات الخضراء، وإعادة التدوير، والطاقة المتجددة، وبعض الحريات المدنية (وخاصة الحريات الجنسية).

فماذا لو ظل الشعبويون على هذا النجاح خلال الأعوام القليلة القادمة؟ قد يتوقع المرء مزيدًا من السياسات العامة المتعلقة بحفظ القوانين والنظام، وحظر ارتداء النقاب، وتعاظم معارضة الهيئات متعددة الأطراف مثل الاتحاد الأوروبي، والناتو، ومنظمة التجارة العالمية، وزيادة التعاطف مع روسيا (وهي عاطفة موجودة عبر الطيف الشعبوي).

يُتوقع أيضًا استفتاءات متكررة، وقلة دمج اللاجئين، ومزيدًا من المناظرات السياسية الاستقطابية، ومزيدًا من الزعماء الديماغوجيين الذين يجيشون العواطف بصورة مباشرة نحو مصوتيهم الأوفياء ونيابة عنهم.

لا يحتاج الشعبويون للفوز بالانتخابات لينشروا أفكارهم وسياساتهم فيمكنهم القيام بذلك عبر الأحزاب الأخرى التي تخشى على شعبيتها منهم

لا يحتاج الشعبويون إلى الفوز بالانتخابات كي يسنّو سياساتهم العامة وينشروا أسلوبهم السياسي. إذ يمكنهم القيام بذلك عبر الأحزاب الأساسية التي تخشى على الأصوات التي تحصل عليها بأن يحصل عليها الشعبويون، وهو ما ينقل العدوى إليهم ويجعل الشعبويين يتغذون على دمائهم السياسية. يحذر بيل قائلًا: "في نهاية المطاف،  قد ينتهي الحال بأن يستهلك الكائن الطفيلي الكائن المضيف له".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الديمقراطية.. على حافة الهاوية

أوروبا واليمين.. عصر الظّلام المُقبل