24-فبراير-2018

من احتجاجات 1968 في باريس (Getty)

يَعقد مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، مقارنة بين احتجاجات عام 1968 في أوروبا، ذات الميل اليساري الجذري والمطالب الحقوقية، وبين موجة الخطاب القومي اليميني المتطرف في الوقت الحالي، من جهة أن كل منهما يُمثّل بشكل أو بآخر ثورة متجاوزة للاعتبارات السياسية المحضة إلى تطلعات التغيير الجذري في المجتمعات والأفراد. في السطور التالية ننقل لكم المقال مترجمًا بتصرف.


في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، نشر مجموعة من المثقفين المحافظين، أو بالأحرى اليمينيين، من شتى أنحاء قارة أوروبا، بيانًا كُتب بعناية، تحت عنوان "أوروبا التي يمكننا الإيمان بها".

الفورة القومية الحمائية الحالية في أوروبا الآن شبيهة بانتفاضات اليسار في 1968، فكل منهما سعى لتغيير طريقة الناس في التفكير والعيش

يتضح من البيان خلطًا لعدة مفاهيم، فيتبادر للقارئ لأول وهلة أن البيان مناهض للإمبريالية، لكن يتضح أنه مناهض للاتحاد الأوروبي باعتباره "إمبراطورية للمال واللوائح التنظيمية"، أو أنّه بيان مناهض للاستعمار، لكن المقصود هي الهجرة فـ"الهجرة دون استيعاب واندماج، تعد استعمارًا"، وفقًا لهم. الرسالة الواضحة أنهم يُدافعون عن الدولة القومية، ضد النخبة المؤيدة للوحدة الأوروبية "ممن أعمتهم التصورات والتطلعات العابثة، لمستقبل طوباوي"، على حد قولهم.

اقرأ/ي أيضًا: الشعبوية في أوروبا.. تيار يجرف حتى الأحزاب "المعتدلة"

وصدّق أو لا تصدق، فإن الفورة القومية الحمائية (التي تقدم مصالح أهل البلد الأصليين على مصالح المهاجرين)، التي ينادي بها هؤلاء المثقفون، تشبه الانتفاضات اليسارية التي اندلعت عام 1968. وعلى غرار المتظاهرين حينها، فإن هؤلاء المثقفين اليمينيين، لا يحاولون مجرد الفوز بالانتخابات، بل يحاولون تغيير الطريقة التي يفكر ويعيش بها الناس. وفي الوقت ذاته، يتمثل ما يريدونه بدقة في محو الإرث الذي خلّفه عام 1968 وراءه، في أوروبا.

إن المفهوم الرئيسي الذي أدى إلى وجود انتفاضات 1968، يتمثل في "الاعتراف". فالاعتراف، بالنسبة لذلك الجيل، كان يعني في الأساس أن هؤلاء الذين لا يملكون أي سلطة سياسية، يجب أن يتمتعوا بنفس الحقوق التي يتمتع بها ذوو السلطة. وتتمثل الكلمة الرئيسية للثورة القومية الحالية، في "الاحترام"، الذي من خلاله يقول متمردو القرن الـ21، أن الحقيقة المتمثلة في حصولنا جميعًا على حقوق متساوية، لا تغير حقيقة أننا نتمتع بسلطات سياسية مختلفة.

وإذا كان متظاهرو 1968، قد انشغلوا إجمالًا بالحقوق، وخاصة حقوق الأقليات سواءً العرقية أو الدينية أو الجنسية، وقد كانت من أبرز الشعارات: "كلنا أقليات"؛ فإنّ فورة القومية الحالية، هي من أجل حقوق الأغلبية! وإذا كان العام 1968 مرتبطًا باعتراف الأمم بأخطائها –على سبيل المثل، المستشار الألماني ويلي برانديت وهو جاثم على ركبيته أمام النصب التذكاري الخاص بانتفاضة غيتو وارسو- فإن القادة القوميين في الوقت الحالي، منشغلون بإعلان براءة بلدانهم. ويُشار في هذا الصدد إلى القانون البولندي الأخير، الذي يُجرّم أي إشارة إلى مشاركة بولندا في الهولوكست.

المستشار الألماني ويلي برانديت، أمام نصب تذكاري خاص بانتفاضة وارسو
المستشار الألماني ويلي برانديت، أمام نصب تذكاري خاص بانتفاضة وارسو

وإن كان أبناء جيل 1968 قد تخيلوا أنفسهم، بشكل رمزي، أبناءً لليهود المضطهدين أوروبيًا، فإنّ القادة القوميين المناهضين للهجرة والأقليات اليوم، يفضلون الدفاع عن إسرائيل، حتى في ممارساتها الانتهاكية بحق الفلسطينيين.

في المقام الأول، تعتبر الأحزاب الشعبوية اليمينية في الوقت الحالي أحزابًا ثقافية، فهي تنظر إلى مواقعها من السلطة، على أنها فرصة لتشكيل الهوية الوطنية، وللحصول على حق تصحيح السردية التاريخية، ولا تهتم كثيرًا بتغيير نظام الضرائب أو الرفاهية. ومن الأهمية بمكان بالنسبة لها، كيفية ارتباط المجتمع بماضيه، وكيفية تعليم الأطفال. وتمثل المناقشة حول الهجرة فرصة سانحة لتحديد مَنْ ينتمي ويستطيع أن ينتمي، إلى مجتمع سياسي وطني.

تعتبر الأحزاب الشعبوية اليمينية في الوقت الحالي أحزابًا ثقافية، فهي تنظر إلى مواقعها من السلطة، على أنها فرصة لتشكيل الهوية الوطنية

لكن في حين تتخذ انتفاضة القومية الحالية، شكل الصراع بين التقدميين وبين المحافظين اليمينيين في كل دولةٍ على حدة، فعلى مستوى الاتحاد الأوروبي يبدو الوضع كما لو كان صراعًا بين غرب أوروبا وشرقها. وعلى نحو أكثر دقة، إنه صراع بين نسختين للنزعة المحافظة.

اقرأ/ي أيضًا: هواجس الانهيار ترسم خارطة الاتحاد الأوروبي المستقبلية

ظهرت النزعة المحافظة في غرب أوروبا عقب 1968. وانطوت على بعض التقدمية التي شكّلت الغرب على مدار نصف القرن الماضي –مثل قيم حرية التعبير والحق في الاختلاف– بينما رفضت ما اعتبرته تجاوزًا في انتفاضات 1968. ففي غرب أوروبا، يمكن للنشطاء والقادة البارزين في اليمين المتطرف أن يكونوا مثليين بشكل علني.

أما في النسخة الشرقية، تعتبر المحافظة شكلًا أكثر جذرية من الأهلانية (أيديولوجية تقديم مصالح أهل البلاد الأصليين على المهاجرين)، فترفض التحديث والحداثة بشكل عام، وتنظر إلى التغييرات الثقافية التي جرت خلال العقود الأخيرة على أنها محاولة لتدمير الثقافات الوطنية لمجتمعات وسط أوروبا وشرقها. كونك محافظًا في أوروبا الوسطى يعني ألا تكون فقط ضد تجاوزات 1968، ولكن أن تكون أيضًا ضد أي شكل من أشكال الكونية أو العالمية أو الاختلاف والتنوع.

لم يتحدث أحد عن وجهة النظر هذه أفضل مما فعل فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، لمّا صرح هذا الشهر قائلًا: "يتعين علينا القول بأننا لا نود أن نكون مختلفين ولا متنوعين ولا نود أيضًا أن نكون مختلطين. فلا نرغب أن يمتزج لوننا وتقاليدنا وثقافتنا الوطنية مع لون وتقاليد وثقافة الآخرين. لا نرغب بذلك على الإطلاق. ولا نريد أن نكون بلدًا متنوعًا. نود أن نكون على الحال الذي كنا عليه منذ 1100 عام هنا في حوض الكاربات".

يوضح موقف أوربان الفرق بين وجهة نظر يمينيو الشرق والغرب، فيعتقد اليمين المنتمي لغرب أوروبا، أنه لا يكفي الحصول على جواز سفر الدولة لتنتمي إليها، وإنما ينبغي أيضًا اعتناق ثقافتها السائدة، في حين أنه من منظور أوربان، لا يمكن أن تكون مجريًا إن لم تولد مجريًا.

ومن هنا تأتي المفارقة المتعلقة بموجة الخطاب القومي الحالية في أوروبا، إذ تحول كل من شرق وغرب أوروبا إلى اليمين خلال السنوات الأخيرة، ولكن بدلًا من المساهمة في وحدة أوروبا، أدى هذا التحول إلى توسيع الفجوة بين الجانبين.

ففي حين يتنافس سكان غرب أوروبا للفوز بمزايا التنوع، فإنهم يعيشون بالفعل في مجتمعات متنوعة ثقافيًا، وهو السائد منذ فترة ما. على الجانب الآخر، يعيش سكان وسط وشرق أوروبا في مجتمعات متجانسة عرقيًا، ويعتقدون أن التنوع لن يمسّهم. ويحلم المحافظون في الجزء الغربي من أوروبا بقارة تشكل فيها الأغلبية المجتمع؛ أما في الشرق فيحلمون بمجتمع دون أقليات أصلًا، وحكومات دون معارضة.

لذا، في حين أن القادة السياسيون المحافظون أمثال أوربان، الذي يريد أن يأخذ بلده 1100 عام إلى الوراء، وسباستيان كورز، رئيس وزراء النمسا المحافظ، البالغ من العمر 31 عامًا؛ يتشاركون وجهات نظر مماثلة فيما يتعلق بالسيطرة على الهجرة أو انعدام الثقة الذي ميز النزعة القديمة للمحافظة، فإنهما لا يتشاركان نفس التصورات عندما يتعلق الأمر بمستقبل الاتحاد الأوروبي.

يحلم المحافظون في غرب أوروبا بقارة تشكل فيها الأغلبية المجتمع؛ أما في الشرق فيحلمون بمجتمع دون أقليات أصلًا، وحكومات دون معارضة

بالنسبة لغرب أوروبا لا يكفي أن تحصل على جنسية دولة ما لتنتمي إليها، فلابد من اعتناق ثقافتها السائدة، أمّا بالنسبة للشرق لا يمكن الانتماء لدولة ما لم تولد فيها. وفي الحقيقة، إنهما يختلفان بنفس الطريقة التي اختلفت بها انتفاضات 1968 في غرب أوروبا وشرقها. ففي الغرب، كان الأمر مرتبطًا بسيادة الفرد، بينما في الشرق كان مرتبطًا بسيادة الأمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النمسا والمجر.. تطبيع مع تاريخ الفاشية العميق

جاءكم اليمين العنصري حاملًا سيفه