07-يوليو-2017

لم تمنع شعارات الممانعة من تحول الجيش السوري إلى جيش طائفي (أ.ف.ب)

يُحدد لينين في كتابه "الدولة والثورة" مفهوم الدولة بأنها: "تعبير عن واقع مجتمع متورط في تناقض مستعصٍ مع ذاته، وفي ظل التناقضات التي تموج بهذا المجتمع، تبرز قوة تقف ظاهريًا فوق المجتمع وتقوم بتلطيف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود النظام"، يُوضح لينين أن هذه القوة، "التي رغم انبثاقها في الأساس من المجتمع، لكنها تقوم بوضع نفسها مع ذلك فوقه، ومع الوقت تنفصل عنه أكثر فأكثر؛ وهذه هي الدولة".

في موضع آخر من الكتاب، يقول لينين إن هيمنة السلطة تقوى "بمقدار تفاقم التناقضات داخل المجتمع، وبما أن الدولة نشأت من رحم الاصطدامات بين هذه الطبقات، وأيضًا للحاجة إلى تحجيم التناقضات، لذا فهي دولة الطبقة السائدة سياسيًا، وتكتسب على هذه الصورة وسائل جديدة لقمع الطبقات المظلومة".

صُممت الطائفية لإخفاء واقع التمييز الاجتماعي والسياسي وراء التمايز الثقافي الموروث، فهي إذن تخفي الطبقات لا الطوائف

يطرح هذا المدخل النظري بُعدًا مختلفًا لمسألة الطائفية، ابعتبارها مُفسرًا يمكن الفهم من خلاله كيف تعمل الدولة، وتدير الحرب في سوريا، بدايةً من واقع كان مخفيًا للتناقضات داخله، تحت شعار "الوحدة الوطنية" في مواجهة رغبات التقسيم من الاحتلال الفرنسي، لينتهى الأمر بالجمهورية الجديدة، التي تعصفها انقلابات عسكرية متتالية، أنهت على الحياة السياسية في البلاد، ومهدت الطريق لإمكانية تأسيس حكم سلطوى يصعب إزاحته.

الطائفية في سوريا كمفهوم سياسي لا ثقافي

يروي محمد حسنين هيكل، أنه أثناء توقيع ميثاق الاتحاد بين مصر وسوريا، قال الرئيس السوري شكري القوتلي لنظيره المصري جمال عبدالناصر: "لقد سلمتك شعبًا يعتبر ربعه أنفسهم آلهة، والربع الآخر أنبياء، والربع الثالث رؤساء جمهورية، والربع الأخير سياسين محترفين".

اقرأ/ي أيضًا: النقاش عن الطائفية: اتهام الدين لتبرئة السلطة

وعلى عكس هيكل الذي يرى أن المدخل الهوياتي هو أحد أهم إشكاليات المعضلة السورية، فإنّ ياسين الحاج صالح، وعلى عكس المفهوم الشائع للطائفية الخاص بأنّ وجود عدد من الطوائف الدينية أوالمذهبية المختلفة في المجتمع، تمثل سببًا كافيًا لأن تكون العلاقة الطبيعية بينهم هي الخصومة والصراع؛ يرى أن الطائفية من خطط السياسة وأدوات الحكم الأصيلة.

الطائفية من وجهة نظر صالح هي مجموعة من الامتيازات السياسية والاجتماعية، وليست مسألة هوية وثقافة ودين، فالطائفية في سوريا تُعيد بناء الهويات وتوجهها لخدمة علاقات السلطة، وضمان ترسيخها، والطائفية أيضًا من وجهة نظره مصممة لإخفاء واقع الامتياز والتمييز الاجتماعي والسياسي وراء التمايز الثقافي الموروث، فهي إذن "تخفي الطبقات لا الطوائف".

الطائفية تعيد تشكيل المجتمع والدولة السورية

الصعود للطائفية في سوريا، بدأت تلوح مظاهره أكثر مع خمسينات القرن الماضي، مع استغلال الجيش لحالة الصخب والاضطراب السياسي ورغبة المجتمعات الخالدة لليقين، لتدخل البلاد في دوامة من الانقلابات، انتهت بانقلاب الأسد القادم من أقلية علوية، والذي سعى معتمدًا على ذاكرة الانقلابات، للإجهاز على من يراهم مصدر تهديد محتمل لنظامه الوليد، إلا أنه لم يمس الهيمنة السُنية كدين عام في مقابل احتفاظه بالسلطة السياسية.

يقول الحاج صالح، إنه منذ بدايات حكم حافظ الأسد انقسمت الدولة السورية إلى دولة ظاهرة وأخرى باطنة، الأولى وفقًا لصالح تضم الحكومة والموظفين والمؤسسات الحكومية ومجلس الشعب، لكنها رغم ذلك لا تملك سلطة تقرير مصائر العباد، وأخرى باطنة تتكون من الرئيس وأسرته وأبناء النظام وتشكيلاته الأمنية ورجال أعماله، وعلويين أصبحت الدولة بالنسبة لهم مسار ترقيهم الاجتماعى الوحيد، بعد هدم الأسد منافذ حركتهم السياسية الأخرى.

علوين يشيعون ذويهم المقتولين في الحرب السورية
سوريون علويون يشيعون ذويهم المقتولين في الحرب السورية

هذا التمايز الواضح، سرى أيضًا على برجوازية النظام، فالبرجوازية الظاهرة إطارها محليٌ في الغالب، أما البرجوازية الباطنة، فتنشأ فقط من كونها بالقرب من مركز السلطة، وتجني ثرواتها بالتشارك مع رأس الدولة. ولعل رجل الأعمال رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد، الشريك الأساسي في شركة الشام القابضة، نموذجٌ على ذلك.

وعلى مستوى المجتمع، سعى هذا النظام لتأسيس مسارات عوجاء لأفراده، تمر من خلالها احتياجاتهم المرتبطة بالسلطة لتصبح عبر وساطات، سواء من مراكز مقربة للسلطة أو عبر رشاوى لأصحاب النفوذ أو عبر القرابات الشخصية؛ مسارات أدت لاستتباع وإفساد المجتمع ونزع استقلالية أفراده، وحتى معارضيه، الذين كانوا يضطرون لأن يسلكوا بعض هذه المسالك.

إضافة لهذا، فإن فكرة المحسوبية والوساطة وحاجة المرء لرابطة القرابة لتسهيل أمور حياته، أدت لاكتساب هذه الدوائر القريبة دور الفواعل السياسية بالنسبة للأفراد، فتقوم بشد المجتمع إلى الروابط الإثنية وتقويتها عفويًا، في مقابل رابطة المواطنة للدولة، فضلًا عن تقليل الثقة والاعتماد على الآخر المختلف.

مراحل تحول الجيش السوري إلى جيش طائفي

تحت أهداف الحفاظ على السلطة، سعى حافظ الأسد من البداية، إلى التوسع في تشكيلات عسكرية متعددة بهدف تأمين نظامه، مثل سرايا الدفاع والوحدات الخاصة والحرس الجمهوري، ولضمان ولائهم، ولّى على هذه الوحدات الجديدة بجانب الجيش والمخابرات، موثوقيه من الأقارب، وأغلبهم من العلويين. ويُمكن القول إن عملية تطييف المؤسسة العسكرية السورية، مرت بأربعة مراحل، هي:

1. مرحلة الانتداب الفرنسي حتى الجلاء (1920 - 1946):

في هذه المرحلة برزت على السطح الوحدات الإثنية الموجودة في النسيج الوطني داخل الجيش. وكانت سياسة تأسيس الوحدات، تقوم بناءً على هذه التقسيمات. وكانت سوريا قد ورثت بعد جلاء الاحتلال، 17 ألف مقاتل قامت بتقليصهم لما يقارب سبعة آلاف، بدعوى "تفكيك التكتلات العنصرية"، رغم أن الجيش وقتها كان يموج بالأفكار والأيدلوجيات السياسية، ليأتي إحباط الهزيمة العربية في حرب فلسطين، ويبدأ تحول الجيش لفاعل سياسي في المشهد السوري.

تحت أهداف الحفاظ على السلطة، سعى حافظ الأسد من البداية، إلى التوسع في تشكيلات عسكرية متعددة بهدف تأمين نظامه

2. مرحلة الكتل العقائدية المتصارعة (1954 - 1963):

في هذه المرحلة انقسم التنظيم العسكري إلى عدة كتل: التحريرية والاشتراكية والقومية. واحتدم الصراع بينها، إلى أن وضعت الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، حدًا مؤقتًا لهذا الصراع، وقبلوا بتفكيك عبد الناصر لهذه التكتلات. لكن هذه الوحدة رغم الترحيب الشعبي الجارف بها في البداية، لم تستطع كبح جماح التطلعات السياسية للتيارات المختلفة، فضلًا عن إنهائها، لتقع بعد إنهاء الوحدة، عدة انقلابات متتالية بين تيارات كان أهمها التيار البعثي والتيار الوحدوي والناصري والقومي، إذ سعى كل تيار منها للإجهاز على غيره، إلى أن استقر الأمر للبعث عام 1963 وانفرد بالسلطة.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: "الجيش والسياسة" مدخلًا لفهم الدولة الوطنية العربية

3. بداية الجيش العقائدي:

مع استتباب الوضع للبعث، انتقل الصراع لداخل اللجنة العسكرية البعثية، فبعد نفي المقدم محمد عمران، أحد قيادات الانقلاب البعثي، تكشّف فصل جديد للصراع بين الفريق السني بقيادة أمين الحافظ، والتيار العلوي بقيادة صلاح جديد. وأدت تصفية القيادات القومية عام 1966، والذين كانوا من السنة، إلى زيادة نسبة العلويين والدروز والإسماعيليين في الجيش الوطني، وأصبحت نسبتهم فيه أكبر من نسبتهم بين السكان.

ثم كانت المحاولة الأولى من قبل صلاح جديد، لتبعيث الجيش وفق عقيدة يسارية، وتهميش الضباط الذين رفضوا الالتزام الحزبي، وأدت محاولة انقلاب فاشلة عام 1966، إلى تصفية عدد كبير من الضباط الدروز ثم الاسماعيليين، خاصة خلال صراعات ما بعد النكسة واحتلال الجولان عام 1967، لتؤدي كل هذه الصراعات المحمومة لصعود الطائفة العلوية، والتي استطاع حافظ الأسد في نهاية المطاف، عبر تحالفات مؤقتة مع تيارات أخرى كارهة لصلاح جديد، المناورة وحسم الصراع لصالحه في تشرين الثاني/نوفمبر 1970، وسجن رفيقه السابق صلاح جديد حتى الموت.

 4. إعادة بناء الجيش (1970 - 1983):

تخللت هذه الفترة، التحضير لحرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، والتي طورت من قوة الجيش، وأدى تدخل الجيش في لبنان عام 1976، بتحويل سوريا لدولة ذات شوكة إقليميًا وداخليًا. وبدأ رفعت الأسد الشقيق الأصغر لحافظ الأسد، في بناء الجيش بنواة طائفية، رغم تبنيه في البداية خطابًا يساريًا، مستمرًا في دفع العلويين للتطوع في الجيش، مع التأكد من ولائهم. 

وبعد مجزرة مدرسة المدفعية عام 1979، والتي قام بها تنظيم الطليعة المنشق عن الإخوان المسلمين، قام حافظ الأسد بالرد عليها بمجزرة حماة في شباط/فبراير 1982، التي سقط فيها آلاف الضحايا. وبعد محاولة رفعت الأسد الانقلابية، تم تفكيك سرايا الدفاع التابعة واصطفت القيادة القطرية لحزب البعث وراء حافظ الأسد، ليبدأ شكل جديد من العلاقة مع الحاكم، تبرز في المجتمع السوري، حيث بدأ العسكريون والمدنيون في تظاهراتهم يوقعون بالدم تأييدًا للرئيس، وأُعيد توزيع الضباط العلويين ونفوذهم وفقًا لأصولهم العشائرية وأوزانهم النسبية، ليصل عدد أفراد الجيش العامل إلى نصف مليون إنسان.

"شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد"

في حربه ضد الثورة السورية، لم يكتف نظام الأسد بقوات جيشه المدججة، بل ألحقها بقوات مدنية مؤيدة له، ومصطلح "الشبيحة" قبل الثورة، كان يطلق على الحمايات الشخصية لأسرة حافظ الأسد وكبار الضباط والمسؤولين ورجال الأعمال الذين مارسوا أعمال النهب والاعتداء على المواطنين، وفي نفس الوقت تمتعوا بحماية السلطة، فأتت الثورة السورية لتتيح انطلاقهم في المشهد السياسي. 

لم تشفع شعارات الممانعة من تحول الجيش السوري إلى جيش طائفي، بقاؤه رهنٌ لدعم دول ومليشيات أجنبية مذهبية

وتولى العديد من رجال النظام وأقربائه، وعلى رأسهم رجل الأعمال رامي مخلوف، عملية تجنيدهم وتسليحهم، ليقوموا بقمع التظاهرات مستحضرين البعد الطائفي في انتماءاتهم. ومع تحول الثورة السورية للحرب عام 2012، قام النظام بتأطير هذه المجموعات تحت اسم "جيش الدفاع الوطني"، واستعان بهم في حرب المدن لينفذوا مجازر مروعة كمجزرة قرية البيضاء في أيار/مايو 2013. ولتطوير قدراتهم القتالية، أرسل النظام بعضهم للتدريب العسكري في إيران.

اقرأ/ي أيضًا: شبيحة الأسد.. تعرف على أبرز المليشيات الأجنبية المقاتلة مع النظام السوري (3-3)

ولم تشفع شعارات الممانعة ودعم المقاومة من تحول جيش عربي كان محط الأنظار يومًا في قوته، مثل قرينه العراقي، إلى مُجرد جيش طائفي، بقاؤه مرتهن بدعم دول ومليشيات أجنبية ومذهبية. فعلى عكس جارتها لبنان، حيث النظام فيها قائم على التقاسم الطائفي للسلطة، فالطائفية في سوريا كانت أداة في يد الحكم، تسعى لبقاء الرئيس إلى الأبد، بداية من تسمية الرئيس بـ"الأب القائد"، وحتى تطييف المراكز السياسية والقوى الأمنية والعسكرية، والتي أجهزت بدورها على مشروع بناء الجيش والدولة الوطنية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أعتى 11 كذبة للنظام السوري

أساطير العسكري السوري.. جنس وحب وقوة