15-أبريل-2020

كشف وباء كورونا حقيقة دور القطاع العام في لبنان (Getty)

لوقت طويل اعتقد اللبنانيون أنهم يملكون قطاعًا صحيًا رهيبًا. هذه ليست مبالغة. لم يكن منطقيًا أن يموت الناس على أبواب المستشفيات، وكان "الرأي العام" يتذمر من حدوث هذه الحالات. لكن تقدّيس "القطاع الخاص" بقي أقوى من أي اعتراض جدّي. بالنسبة للغالبية، كان يجب حماية "الصيغة" التي يتحدث عنها الجميع، ولا يعرفونها غالبًا. تقريبًا بذات الطريقة التي يتحدثون فيها عن الدولة، كمصدر للخراب، وليس كجهاز لإدارة مجموعة مصالح كما هي في الواقع، بينما في الوقت نفسه ناصروا أحزابًا يتشكل منها صالون الدولة وديكورها.

لوقت طويل اعتقد اللبنانيون أنهم يملكون قطاعًا صحيًا رهيبًا. هذه ليست مبالغة. لم يكن منطقيًا أن يموت الناس على أبواب المستشفيات، وكان "الرأي العام" يتذمر من حدوث هذه الحالات

القطاع الصحي هو أحد النماذج التي سببت استماتة اللبنانيين في الدفاع عن "قطاع خاص" يفكّر بمصلحته ولا يكترث لمصالحهم. ذلك أنهم بعد الحرب، طوروا نظرية غير معلنة، تقوم على أن حماية القطاعات لا تكون عبر الدولة، بل صدّقوا أنه يجب حمايتها من الدولة. فقد انتهى تعريف الدولة في لبنان، كما لو أنه تبخر تمامًا. وقد تكون هناك "مكارثية" عالمية، سببت نوعًا من العدائية تجاه فكرة القطاع العام، لكن المكارثية اللبنانية لديها ظروفها. في الوقت ذاته أيضًا، وبسبب رواسب كولونيالية تسبب شعورًا واهيًا بالتفوق على المحيط العربي، يصدّق اللبنانيون أن لديهم أفضل الأطباء، وأنهم يتخرجون من دول غربية، وأن هناك شخصيات عربية تأتي إلى بيروت لتتطبب، وما إلى ذلك من أوهام. لكنهم لم ينتهبوا أن ذلك كان باسمهم، ولم يكن لأجلهم.

اقرأ/ي أيضًا: فيروس كورونا يشل الحياة في لبنان والخوف الأكبر مما هو قادم

اليوم، يواجهون الحقيقة: كورونا. هناك 700 سرير مجهز بأقنعة تنفس، في حال تفاقمت إصابات الكورونا، أو ازدادت، وهي بدأت تقترب من هذا الرقم. ورغم نجاح وزارة الصحة حتى الآن بمحاصرة الوباء، بإمكانات قليلة، وأزمات موروثة كثيرة، انصرف اللبنانيون إلى سجال حول المديح والذم، بدلًا من التركيز على نقطتين أساسيتين، في صلب النقاش عن القطاع الذي اكتشف العالم أخيرًا أنه الأكثر أهمية.

النقطة الأولى، الفحوصات المجانية لكورونا، قام بها المستشفى الحكومي، كما أن الإقامة في المستشفيات الخاصة تكلف مبالغ تفوق الوصف. في هذه النقطة، تحديدًا، فجأة، اكتشف اللبنانيون أن الطبابة هي من حقوقهم. وأن الدولة مجبرة على تأمين الرعاية الصحية لهم. وهم قبل أسبوع من كورونا، كانوا يموتون، بالمعنى الحرفي للكلمة، أمام أبواب المستشفيات، التي ترفض استقبالهم، من دون أن يرف لها أي جفن. وبمعزل عن السلوك الزبائني لوزراء الصحة السابقين، فإن "الصيغة" غذت نفسها بنفسها أيضًا. كان الوزراء أنفسهم، أكثر ميلًا لمسايرة القطاع الخاص، لحسابات متعددة، وفي الوقت ذاته، كان اللبنانيون بلا أي ثقة بجميع مؤسسات القطاع العام. ولكن تشويه القطاع العام وتصويره كجثة غير قادرة على التطور، ليس مجرد آراء منهجية في بيروقراطية الدولة بالضرورة، بل في الحالة اللبنانية يمكن الافتراض أن مصالح تخشى على أربحاها وقفت خلفها. من نافل القول التذكير بالعلاقة بين مصرف لبنان وجمعية المصارف للإشارة إلى هذه المصالح، ولا سيما التعيينات الأخيرة في المصرف المركزي.

ما يمكن تعلمه ـ بهدوء أو بعد انفعال ـ من درس الكورونا الصعب، يتمثل في العلاقة بين القطاعين الخاص والعام، وعلاقة الناس بهما منفصلين، أو كل على حدة.  ليس صحيحًا أن قدر القطاع العام هو الكساد. ولو كان الانفاق على هذا القطاع سليمًا، لتجاوز عدد الأقنعة والأسرة المتاحة الأرقام المتوافرة حاليًا، على أن يكون شرط ذلك التخلي عن "الصيغة" الزبائنية. بالنسبة لكثيرين، ستبدو هذه أحلام، وهي كذلك فعلًا، خاصةً وأن خلفنا بشهرين انتفاضة مجهضة. لكن، فهم درس الكورونا، يجب أن يكون حاضرًا في شعارات أي انتفاضة مقبلة. وهذا مدخل للنقطة الثانية. اكتسبت الانتفاضة شروطها، لأن طابعها كان عامًا. وأي إنجاز، إن كان يمكن الحديث عن إنجازات في بلد مهترئ اقتصاديًا مثل لبنان إلا في المخيالين العقيمين القومجي والأيديولوجي، يجب أن ينتبه إلى أنه لم يكن ممكنًا من دون الانتفاضة. وهذا يشترط طبعًا التخلي عن المصطلحات العامة الدارجة في أوساط الجمعيات التي تسللت إلى الانتفاضة، مثل الحديث عن الفساد، بدل الحديث عن تغيير النظام الاقتصادي الممسوخ، ومثل الحديث عن ديكتاتوريات الطوائف بدلًا من محاولات فهم التعددية الدينية، ومثل الحديث الخبيث عن فشل مؤسسات الدولة، بدلًا من الحديث عن الحقوق والواجبات.

اقرأ/ي أيضًا: في زمن كورونا: إجراءات جديدة لمصرف لبنان تهدد الليرة

للحظة، يتوجب أن نستيقظ. ربما لن يحدث شيء من هذا. قد يبقي التذمر من الموت أمام المستشفيات مجرد تذمر. حتى الآن، وباستثناء الفئات المسماة في أدبيات البنك الدولي السيئة بالـ "الفئات الأكثر تضررًا"، لا يوجد أي أحد، ولا فريق واحد من الائتلاف الذي يحكم لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، شعر بضرورة إيجاد حلّ للتفاوت في الحصول على الرعاية الطبية.  ولا نتحدث عن محاولة تقديم خطط، بل نتحدث عن المرحلة التي تسبق ذلك بكثير. البطاقة الصحية، ضمان الشيخوخة، حالات الطوارئ، كل هذه المسائل تم التعامل معها على أنها أشياء مستحيلة. وإذا أوقفت لبنانيًا في الشارع، وسألته عن رأيه بإمكانية حصوله على هذه الخدمات من الدولة، غالبًا سيضحك.

اكتسبت الانتفاضة شروطها، لأن طابعها كان عامًا. وأي إنجاز يجب أن ينتبه إلى أنه لم يكن ممكنًا من دون الانتفاضة

هناك شعور عام بأن أشياء مثل هذه مستحيلة، وأن "الصيغة" أقوى من الجميع. وباستثناء التقارير التي تعرضها وسائل الاعلام، لأهداف رخيصة غالبًا تقتصر على جذب المشاهدين ورفع مستويات نسبة المشاهدة، فإن أي أفكار جدية عن استبدال هيمنة المستشفيات الخاصة بقطاع عام صحي قوي، لم تكن واردة. ربما يكون الحديث عن توقيت وجود هذه الحكومة وتزامن انتشار وباء كورونا معها سياسيًا، وبذلك يستدعي نقاشًا سياسيًا. لكن النقاش ليس سياسيًا. النقاش اجتماعي بامتياز، وسؤاله الرئيسي ليس صعبًا. هل سيتمسك اللبنانيون بالصورة الهزيلة عن الدولة التي في رؤوسهم، أم أنهم سيعودون لعبادة القطاع الخاص بعد انحسار الوباء؟