26-أبريل-2017

ماكرون في خطاب جماهيري بعد صعوده للدور الثاني من الانتخابات (Getty)

في مدى 6 أشهر فقط، حصل حدث فارق في ديمقراطيتين عريقتين هما الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، متمثلًا في تجاوز الأحزاب التقليدية في السباق الرئاسي بشكل غير مسبوق في تاريخ البلدين. صحيح أن دونالد ترامب لم يصعد من خارج الحزب الجمهوري، ولكنه لم يكن يمثل المؤسسة التقليدية للحزب الذي لم يتخذه الرئيس الحالي كمصعد لمسيرته السياسية التي تظلّ بكل الأحوال خافتة، مقارنة بمسيرته في عالم المال. في النهاية، لم يكن مرشح الجمهوريين إلا أقل المرشحين دعمًا من مؤسسة الحزب وقياداته التاريخية.

يعيش المجال السياسي الغربي زلزالًا يمثل لحظة تأسيس لحقبة لم تعد الأحزاب التقليدية فيها جوهر التنافس

من جهة أُخرى، وللمرة الأولى منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، لا يترشح الحزبان الرئيسيان في فرنسا للدورة الثانية، مع صعود للتيار اليميني الشعبوي من جهة متمثلًا في مارين لوبان، وظاهرة إيمانويل ماكرون، الذي يصرّ دائما على تعريف نفسه بأنه ليس يساريًا أو يمينيًا، لأنه يقود "ثورة ديمقراطية" بتعبيره.

اقرأ/ي أيضًا: بعد الدور الأول من الانتخابات الفرنسية.. ماكرون ولوبان وصراع النقيضين

وبذلك يعيش المجال السياسي الغربي زلزالًا، لعلّه يمثل لحظة تأسيس جديدة لحقبة لم تعد فيها الأحزاب التقليدية، أي أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط، هي جوهر التنافس في المجال العام، بل باتت على أطرافه، إن لم تراجع خطها السياسي وأدبياتها بدرجة أولى.

إنها أزمة أفكار قبل أن تكون أزمة أحزاب، في مجال يتنامى فيه التيار اليميني الشعبوي، وبات فيه لليسار الراديكالي ثقله الذي عكسه ميلانشون في فرنسا وحزب بوديموس في إسبانيا وكذلك سيريزا في اليونان. كما تعيش الأحزاب الكلاسيكية نفسها تحولات داخلية، فمرشح الحزب الاشتراكي في فرنسا بونوا هامون، هو أكثر المرشحين يسارية في تاريخ الحزب. وفي بريطانيا، يرأس حزب العمال زعيم التيار الأكثر يسارية في تاريخ الحزب كذلك، جيمي كوربن. هناك انفلات عن الخط السياسي التقليدي المتوارث داخل الأحزاب الكلاسيكية نفسها.

بيد أن ظاهرة ماكرون مستفزّة جدّا مقارنة بصعود ترامب، ومردّ الاستفزاز ليس الخلفية أو البرنامج، بل منحى التشكّل والصعود. في النهاية، يمثل ترامب، الذي ظهر كمرشح أبله متعجرف ربما قد اختار خوض الانتخابات على سبيل المكابرة؛ امتدادًا لصعود التيار اليميني الشعبوي في الغرب، وربما قد مهّدت لصعوده "حركة الشاي" في الحزب الجمهوري طيلة السنوات الفارطة.

في المقابل، لم تبد مؤشرات في المجال السياسي الفرنسي قبل سنة، بل حتى أقلّ، لصعود تيار وسطي من خارج الأحزاب التقليدية، سيصل مرشحه للإيلزيه، فلم يكن الحديث إلا على ثلاث: هزيمة منتظرة للاشتراكيين، ومزيد من انتشار اليمين المتطرف، وفوز لليمينيين وتأكيد استعادة عافيتهم، بخاصة بعد كسبهم الانتخابات البلدية والجهوية الأخيرة.

ولكن حينما استقال ماكرون من حكومة مانويل فالس، قبل أشهر، وأعلن تأسيس حركة سياسية اختار لها اسما "إلى الأمام"، لم يبدُ الشاب الثلاثيني إلا مغامرًا بائسًا، ومقامرًا خائبًا. غير أن هذا المصرفي استطاع تشكيل "حالة سياسية"، مُحققًا اختراقًا بطريقة سريعة وجذابة، استغلت عنصريْن مرتبطيْن، أولاهما فقدان ثقة الشارع الفرنسي في الفاعلين السياسيين جمعًا، بخاصة بعد تصاعد الخطر الإرهابي والأزمة الاقتصادية، وثانيهما الخيبة من الفاعليين التقليديين قصرًا، وذلك بعد حصيلة سلبية للاشتراكيين في الرئاسة، وغياب بديل يميني جمهوري قويّ. ساهمت فعلًا فضيحة فرانسوا فيون في دفع ماكرون للمقدّمة، بيد أن ذلك لا ينفي أن اليمين الجمهوري يعيش بدوره عدم استقرار، مؤشره ببساطة أن فيون نفسه فاز في الانتخابات التمهيدية بخلاف التوقعات.

مثّل ماكرون مهربًا لقرابة ربع الناخبين الفرنسيين، الذين بقدر رفضهم لليمين المتطرف، لا يثقون في الأحزاب التقليدية

ماكرون هو يساري ويميني في آن، فما الوسطية إلا شيء من هذه وتلك، وهو ما يظهر بوضوح في برنامجه الاقتصادي، الذي يمثل توليفة بين البرامج اليسارية واليمينية، ولكن يظل السؤال: هل يجمعها خيط ناظم يجعل من هذا البرنامج فاعلًا وناجعًا؟ يجب على ماكرون الذي ينتظر الدخول للإيلزيه بعد أقل من أسبوعين، أن يقدم إجابة واضحة تتلاشى معها مكامن الغموض.

ومثّل ماكرون في الدورة الأولى مهربًا لقرابة ربع الناخبين الفرنسيين، الذين بقدر ما يرفضون أفكار اليمين المتطرف، لا يريدون أن يمنحوا ثقتهم مجددًا للأحزاب التقليدية التي لم تقدم الشيء الكثير. وللإشارة، فقد حكم اليمين لخمس سنوات مع ساركوزي، ثم سُحبت الثقة منه ليصعد الاشتراكيون ويفشلون في عهدتهم، وتنحدر شعبيتهم بشكل غير مسبوق.

في هذه الحركية السياسية، خرج ماكرون كمارد على الطبقة السياسية التقليدية، حتى ظهر كمرشح لتعرية هذه الطبقة الفاشلة والغارقة في فضائحها السياسية والمالية.

اقرأ/ي أيضًا: ماكرون.. الدخيل الفرنسي الذي سوف يصبح رئيسًا

وأن يكون ماكرون شابًا ثلاثينيًا، وصاحب مسيرة مهنية مصرفية ثرية، وأن يأخذه عشقه ليتزوج بمن تكبره بربع قرن، فكلها مستجدات مغرية لم يسبقه إليها أي مرشح سابق، والناخب المتمرّد يغريه ذلك. دعنا نكتشف، هكذا لسان حال الملايين ممّن صوّتوا لماكرون.

ولا يجب أن نتغافل عن أنّ اختيار ماكرون لتوقيت ارتداده عن الاشتراكيين، ثم قدرته على فرض نفسه كمرشح جديّ، يكشف بأننا أمام رجل ذكي ويعرف متى يسرق اللحظة السياسية. نحن أمام ظاهرة بمعايير علم الاجتماع السياسي. وعمومًا يظلّ السؤال الأهم حول قدرة ماكرون وحركته على تغيير المشهد الحزبي الفرنسي والتموقع أمام حزبين تقليديين عريقين يعدّان العدّة للمراجعة وإعادة البناء من جديد بهدف استعادة مجدهما الضائع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تصريحات ماكرون تفتح جرح الماضي بين فرنسا والجزائر

كيف ينظر المرشحون لرئاسة فرنسا إلى أوروبا؟