13-أكتوبر-2020

مارتن لوثر في زي مسلم لــ إسلام أحمد

ربما لم يتوقف سؤال "الإصلاح الإسلامي" عن البزوغ منذ عصر النهضة العربي، وكان يخبو أو يزداد حدة وفق المراحل السياسية والاجتماعية التي مرت بها المنطقة، إلا أنه لم يتوقف حتى تاريخنا هذا. النزعات الإسلامية الإصلاحية تواجدت عبر التاريخ، ليس ابتداء بجمال الدين الأفغاني كمثال، وليس انتهاء بنصر حامد أبو زيد كمثال آخر، لكنها في الوقت الراهن، خاصة بعد ظهور الإسلام السياسي في حقبة الربيع العربي، سواء بظهور حزب الله كمثال أيضًا، أو جبهة النصرة كمثال آخر أيضًا، تزداد إلحاحًا. 

تصارع مارتن لوثر مع الأكليروس المسيحي من منطلق أنه لا يوجد نص في الأناجيل يبرر تصرفات الكنيسة ورجال الدين

هذه التجربة السيئة مع الإسلام السياسي المتطرف أعادت من جديد ومرة أخرى طرح سؤال الإسلام والإسلام السياسي من باب إصلاحه وإيجاد صيغ أخرى لسلوكه. أعادت طرحه كسؤال معرفي يجب البحث فيه وحسمه أيضاً. بعبارة أخرى: برز السؤال عن مارتن لوثر آخر، مسلم هذه المرة!

اقرأ/ي أيضًا: البحث عن مارتن لوثر الإسلام

لقد تصارع مارتن لوثر مع الأكليروس المسيحي من منطلق أنه لا يوجد نص في الأناجيل يبرر تصرفات الكنيسة ورجال الدين، ويمنحها الشرعية الدينية. وكان استيلاء هؤلاء على عقول الناس وقلوبهم يستند لعدة أمور، أبرزها اثنان، الأول: صكوك الغفران التي ابتدعها رجال الدين المسيحي وشنّعوا عبرها على الناس، حيث كان يتوجب على الإنسان (الخاطئ) أن يشتري صكًا من صكوك الغفران التي تحتكرها الكنيسة، ثم يصار إلى التكفير عن خطيئته بناء على عمل صالح يقوم به، وترضى عنه الكنيسة وتراه، هي، عملًا صالحًا، لقد كانت تحل بذلك محل الله، ومحل المسيح. الأمر الثاني: هو جهل الناس بحقيقة دينهم، وبنصوص الكتاب المقدس، فقد كانت الكنيسة منحت لنفسها سلطة تفسير الأناجيل، وسلطة تطبيق نصوصها أيضًا. وكان لقي هذا الأمر، على نحو ما، قبولًا وتسليمًا ناجمين عن قرار الإمبراطورية الرومانية بمنع ترجمة الكتاب المقدس إلا إلى اللغة اللاتينية، وهذه لغة لا تعرفها العامة. بذلك تكون الكنيسة، محمية بالإمبراطورية، جهّلت الناس، واستفردت بهم، كما يمكن أن نقول.

لقد صارع مارتن لوثر صكوك الغفران واعتبر أن ما يمنح الإنسان (الخاطئ) الغفران هو الإيمان فقط، وليس بحاجة إلى صك من أي أحد، مبينًا أن الأناجيل لا تنطوي على مثل هذه "الخزعبلات" التي ابتدعتها الكنيسة لتُحكم سيطرتها على الناس. وكي يجد رأيه قبولًا كان لابد أن يجعل الناس يعرفون حقيقة دينهم مباشرة دون وسيط، فقام، متحدّيًا سلطة الإمبراطورية والكنيسة، بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة المحلية ليقرأه الجميع ويفسره كل شخص كما يشاء، إذ أن الكنيسة غير مخولة بتفسيره.. بهذا نزع لوثر احتكار الدين من الكنيسة وعممه على الجميع.

الكثير من الفلاسفة والمفكرين والكتاب يعتبرون إن الإصلاح اللوثري هذا هو بداية عصر الإصلاح في أوروبا قاطبة، بل بداية عصر النهضة، حيث اعتنق الكثير من الأوروبيين مبادئ لوثر، ونشأت بعد ذلك دول اتخذت من اللوثرية عقيدة رسمية للدولة، بما يعني ذلك حصر دور رجال الدين والكهنة والبابوات... داخل الكنيسة فقط، أما المجتمع والسياسة وغير ذلك من قضايا مدنية وذات طبيعة دنيوية فهي من اختصاص الناس والدولة.

لقد قام لوثر أيضًا بفك الارتباط بين العهد القديم الذي هو التوراة والعهد الجديد الذي هو الأناجيل، فمن المعروف تاريخيًا ودينيًا أن الأكليروس المسيحي وحّد بين العهدين واعتبر الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد كتابًا واحدًا للمسيحيين، فيما في الحقيقة فإن الأناجيل فقط هي كتاب المسيحية، وهذا ما أقره لوثر.

بالنظر إلى أفكار ومبادئ مارتن لوثر في المسيحية، هل يمكن أن يكون ثمة مارتن لوثر مسلم أيضًا؟ بمعنى آخر: هل ثمة إمكانية لوجود إصلاح إسلامي على غرار الإصلاح المسيحي؟

لو أعدنا النظر بإصلاح لوثر لوجدنا أنه كان يصارع الكنيسة فقط، ولم يغرق في تفسير الإنجيل، ولم تحدث مشادات حول نص من النصوص المنسوبة للمسيح. على العكس فقد بقي على مدار صراعه مع اللاهوت ينفي أن يكون ثمة نص إنجيلي تستند عليه الكنيسة في ممارساتها، وكانت الحجة الأقوى التي اقتنع بها الناس حول براءة الإنجيل مما يكذبون هو أنه ترجمه لهم بلغتهم، فجعلهم يقرؤونه بأنفسهم، الأمر الذي أكد مقولاته فاتبعوه... وهنا فارق كبير بين المسيحية والإسلام.

من أين إذًا ينطلق الإصلاح الإسلامي، طالما أن لكل آية تفسيرات مختلفة، ولكل واقعة آية؟

القرآن كتاب بمتناول الجميع، فقلما يخلو بيت، منذ تدوينه، من نسخة منه على الأقل. هو كتاب شامل أيضًا، أي لم يتعلق بالعبادات فقط، بل فصّل في الأحوال الشخصية للمسلمين، وفي حالات الحرب والسلم، وعلاقة المسلمين بعضهم ببعض، وبالآخرين: أصدقاء وخصومًا وأعداء. حتى إن اسمه، لغويًا، يدل على ذلك: "الكتاب" إنه معرّف، ما يعني أنه هو الكتاب الكبير، الأخير، الجامع، المانع، الذي يطوي بين دفتيه الحقيقة كاملة... وبناء على ذلك فإن خلافات المسلمين الشخصية والعامة، والبسيطة والمعقدة تجد لها آية قرآنية تسند وتدعم طرفًا على حساب آخر، وهذا الطرف الآخر يجد له آية تسند موقفه وتدعم رأيه وموقفه أيضًا. فكما توجد آيات تحثّ على التسامح والمحبة ونبذ العنف، توجد آيات تحث على عكس ذلك. فالخلاف الكبير لا يأتي من عدم وجود نص في القرآن حول قضية معينة، بل يأتي من جراء أمرين: إما وجود أكثر من آية تحكم الموقف نفسه، أو ثمة آية واحدة لكن التفسيرات مختلفة، فالقرآن، كما قال علي بن أبي طالب، حمّال أوجه!

اقرأ/ي أيضًا: هل استطاع مارتن لوثر كينج تحقيق حلم حياته؟

لقد قال لوثر إن المسيحية دين فقط. وبهذا كان يمكن فصله عن الدولة، إذ لا نصوص في الأناجيل على أنه دين ودولة، فلم يقم المسيح ببناء دولته والتشريع لها. فيما الإسلام هو دين ودولة أيضًا، فقد أقام الرسول دولته وشرّع القرآن لها في الكثير من الآيات، وحارب النبي كثيرًا، خلال حياته، لأجل دولته وتوسيعها.

فمن أين إذًا ينطلق الإصلاح الإسلامي، طالما أن لكل آية تفسيرات مختلفة، ولكل واقعة آية؟ الكثير من كتابات المصلحين الإسلاميين كانت تنطلق من تفسير خاص لآيات القرآن، ومن الرجوع لأسباب نزول آية ما، أو من كليهما. والكثير من المتشددين والمغاليين كانوا ينطلقون من تفسير خاص أيضًا، لكن مختلف لآيات القرآن، لكنهم كانوا ينحّون أسباب النزول جانبًا معتبرين أن النص القرآني مطلق غير محدد بأسبابه!

إسلاميًا، وحسب وجهة نظر الكثير من التوجهات الفكرية الإسلامية، لا يمكن فصل الدين عن الدولة، لأن الإسلام دين ودولة وسياسة، فعزله في الجوامع وأماكن العبادة فقط يعني التخلي عن نصف القرآن، وهذا غير جائز. كما أنه لا توجد آية تقول بذلك أو توحي به. الإصلاح الإسلامي يعتقد بتاريخية النص القرآني لذلك يأخذ بأسباب النزول، فيما التيارات غير الإصلاحية ترى القرآن لا تاريخيًا، دهريًا، لذلك لا تأخذ بأسباب النزول. 

التيارات الفكرية الإسلامية غير الإصلاحية لا ترى تطورات الإسلام وتاريخه وتياراته الأخرى المختلفة، لا ترى ابن عربي وابن رشد والمعتزلة وغيرهم من مناقشي الإسلام المسلمين، بل تتوقف عند المرحلة الأولى له، مرحلة النبي محمد والخلافة الراشدية. فيما يرى الإصلاح الإسلامي أن الإسلام هو تاريخه أيضًا، وهو النقاشات المختلفة والعميقة التي ظهرت على امتداد التاريخ الإسلامي. بعبارة أخرى: ثمة نزاع بدأ ولم ينته حول تاريخية النص.

قد تكون فكرة "نقد الدين" هي الأساس والمقدمة لكل نقد. الغرب سمّى نقد الكتاب المقدس بالنقد العالي، ذلك أنه لا يوجد أعلى من نقد الدين. ويبدو أنه ثمة ما يشبه الإجماع لدى مفكري الغرب حول تلك التسمية. وقد تكون تلك الفكرة صحيحة، فأن يتجرأ الإنسان على "نقد الدين" ذلك يعني تجرأه على نقد كل شيء، فليس ثمة أعلى من الدين وأكثر قدسية. "نقد الدين" لا يتضمن، بحال من الأحوال، التطاول على الإيمان، أو الهزء منه، أو تسفيه الدين والمتدينين.

"نقد الدين" لا يتضمن، بحال من الأحوال، التطاول على الإيمان، أو الهزء منه، أو تسفيه الدين والمتدينين

مع هذا، وإضافة إليه فإن الدين اجتماعي. تختلف قوة تدخله، عبر رجاله، في حياة البشر اليومية والاجتماعية والسياسية حسب المراحل التاريخية، ففترة الرخاء والازدهار ونمو الأمل والانخراط بالعمل وبالحياة التي يعيشها مجتمع ما تجعل الدين يعود إلى مكانه الطبيعي كعلاقة فردية بين المؤمن وربه، حيث لا يجد رجال الدين الواضعين أنفسهم مكان الله فرصة للتدخل. أما في فترات الشدة والانكماش والاستبداد وفقدان الأمل فإن تدخل الدين، عبر رجاله دائمًا، في حياة الناس يقوى ويشتد حد التطرف.

اقرأ/ي أيضًا: التراث الصوفي وتجديد الخطاب الديني

خطوة مارتن لوثر مهمة في الغرب المسيحي، لكن ما طوّر الغرب هو التنمية الاجتماعية الشاملة والديمقراطية وبزوغ الأمل وانخراط الناس بالعمل وبحياتهم. وهو ما جعل إمكانية فصل الدين عن الدولة تتحقق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل توجد طبقة رجال دين في الإسلام؟!

دليل التدين العاقل: في الضدّ من خطاب العنف