27-سبتمبر-2023
البحر المتوسط واللجوء

الربع الأول من عام 2023، كان الأكثر دموية منذ 6 أعوام بالنسبة للمهاجرين الباحثين عن العبور نحو أوروبا (Getty)

على مدى العقد الماضي، أصبح البحر الأبيض المتوسط الرابط بين غرب آسيا وشمال أفريقيا وتركيا وأوروبا موقعًا للموت الجماعي، خلال عمليات الهجرة واللجوء، نتيجة الحروب والاقتصاديات الهشة في جنوب الكرة الأرضية، وانعدام طرق الوصول إلى المناطق الآمنة.

ورافق محاولات الوصول إلى البر الأوروبي، مآسي إنسانية نجمت عن غرق الآلاف من الأشخاص في عرض المتوسط، دون اكتراث حقيقي من دول الأوروبية في حيوات الناس.

وتقدم صحيفة "الواشنطن بوست"، تقريرًا لمديرة مكتبها في القاهرة كلير باركر، وفي بغداد لويسا لوفلوك، يتناول أعداد المفقودين جراء غرق القوارب والسفن التي كانت تنقل المهاجرين باتجاه السواحل الأوروبية، ويسلط الضوء على قضية "الهوية المجهولة" للضحايا.

الكشف عن هويات ضحايا الغرق في المتوسط، يحتاج إلى إرادة سياسية بحسب تقديرات عدة

2023.. الأكثر دموية

ويشير التقرير أن الربع الأول من عام 2023، كان الأكثر دموية منذ 6 أعوام بالنسبة للمهاجرين الباحثين عن العبور نحو أوروبا، وفقًا للمنظمة الدولية للهجرة. إذ قال مدير المنظمةأنطونيو فيتورينو إنه يخشى أن تتحول الوفيات في المتوسط إلى "أمر عادي".

وتشير تقديرات متحفظة إلى أنه من بين أكثر من مليوني شخص حاولوا العبور، معظمهم من جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية، والشرق الأوسط، هناك ما لا يقل عن 28 ألف شخص في عداد المفقودين، ويفترض أنهم لقوا حتفهم.

ومن بين القتلى معروفي الهوية، لم تتمكن فرق الإنقاذ الأوروبية، من انتشال سوى 13% من الجثث، بحسب أرقام اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أما الغالبية العظمى منهم لم يتم تحديدها أبدًا.

جهود فردية 

وتقول أستاذة الطب الشرعي في جامعة ميلانو كريستينا كاتانيو، التي يعمل مختبرها في التعرف على جثث المهاجرين: "إنه بالتأكيد أكثر تحديًا من حادث تحطم طائرة محلية، ولكن مع الإرادة الصادقة، يمكن القيام بذلك". لكن مختبر كاتانيو في لابانوف، لا يتلقى تمويلًا من الدولة، ولا تقدم الحكومات الأوروبية سوى موارد قليلة، لاستعادة الرفات البشرية التي تصل إلى شواطئها، ناهيك عن الحفاظ عليها والتعرف عليها.

ويكشف التقرير، أن إسبانيا تمتلك قاعدة بيانات مركزية للطب الشرعي، لكن لا يمكن البحث فيها إلا بالاسم. وفي إيطاليا واليونان، هناك تنسيق محدود بين المكاتب والمناطق المختلفة التي تتعامل مع حالات المهاجرين المفقودين. ولم يتم بعد تنفيذ اتفاق عام 2018 بين إيطاليا، ومالطا، واليونان، وقبرص، لتبادل معلومات الطب الشرعي مع المفوضية الأوروبية.

وضمن هذا الفراغ، يحاول أشخاص مثل كاتانيو وضع أسماء ووجوه للمفقودين. وتقول الأستاذة الجامعية: "أنت تقوم بأخذ عينة الأنسجة، وتجمع كل المعلومات التي تحتاجها وتضعها في بياناتك"، لكن "الجزء الصعب هو البحث عن القريب، لكنه ليس مستحيلًا".

getty

استفانوس.. شريان الحياة

كم من الناس سنخسر هذه المرة؟ تسأل الناشطة الإريترية استفانوس، والمقيمة في أوغندا نفسها، "كم أمًّا ستتصل بي لتسأل عن ابنها أو ابنتها المفقودة؟". واستفانوس هي واحدة من الوجوه الأكثر شهرة في الشتات البعيد، مما يجعلها شريان الحياة لأولئك الذين يبحثون عن المفقودين، وفق "واشنطن بوست".

وبحسب الصحيفة الأمريكية، التي تتناول دور الناشطة الإريترية، فهي تحصل على التفاصيل من العائلات، مثل موعد مغادرته والمجموعة التي انطلق معها، وإذا كان يمتلك علامات فارقة في جسده، وتشارك القصص عبر فيسبوك وبرنامجها الإذاعي الأسبوعي، وفي إحدى الحالات، سافرت استفانوس للعثور على إجابات، وبحثت في المستشفيات والسجون، ولكن دون جدوى.

في بعض الأحيان، يتواصل أحد الناجين من حطام القارب، أو يقوم أحد المهربين بمشاركة قائمة الركاب من القارب المفقود.

وفي كثير من الأحيان، يتم ابتلاع القوارب دون وجود ناجين، وتغرق عميقًا لدرجة أنه لا يمكن العثور عليها أبدًا. أو تتناثر الجثث على سواحل مختلفة، دون وثائق هوية، ولا يبذل المسؤولون هناك الكثير للتحقق من هويتهم.

ويصر الخبراء والناشطون على أنه لا يزال هناك الكثير مما يمكن القيام به لاستعادة الكرامة للموتى، وتقديم خاتمة للعائلات التي تتوق إلى الأخبار عنهم.

أوروبا: موتوا بعيدًا

وركز الاتحاد الأوروبي على منع الهجرة، وعقد صفقات مع الحكومات في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لاعتراض القوارب قبل وصولها إلى المياه الأوروبية، كما قام بتمويل مراكز الاحتجاز لمن استطاعوا الوصول إليها من المهاجرين.

وبخصوص المفقودين في عرض البحر، في أغلب الأحيان، لا تتخذ الحكومات الأوروبية إجراءات منسقة لتحديد هوية القتلى، إلا بعد غرق السفن الكبيرة التي تجتذب انتباه وسائل الإعلام.

وحين غرق قارب صيد في المياه اليونانية في 14 حزيران/يونيو الماضي، وعلى متنه 750 شخصًا، اتخذت الحكومة اليونانية خطوة نادرة تتمثل في تفعيل نظام تحديد هوية ضحايا الكوارث، والذي يستخدم عادة أثناء الكوارث الطبيعية، وتواصلت السلطات مع بلدان المهاجرين الأصلية للمساعدة في التعرف على الجثث، وأسست خطًا ساخنًا لعائلات الضحايا.

لكن رد فعل من هذا القبيل، لم يصاحب عشرات حوادث الغرق التي حدثت منذ ذلك الحين، في اليونان أو في أي مكان آخر. وقد سجل "مشروع المهاجرين المفقودين" ما يقرب من 500 حالة وفاة في البحر الأبيض المتوسط خلال تلك الفترة.

getty

تونس نقطة الانطلاق الرئيسية

سجلت تونس تفوقًا على ليبيا هذا العام كنقطة انطلاق رئيسية لقوارب المهاجرين المتوجهة نحو أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. وفي الشواطئ التونسية، يعثر الصيادون على الجثث في شباكهم، ويكتشفهم رواد الشاطئ بعد أن تجرفهم الأمواج على الرمال.

في عام 2016، بدأت أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة أمستردام والمتخصصة في الطب الشرعي، عواطف أماد مشارق، سماع المزيد من هذه القصص التي تأتيها من مسقط رأسها في جرجيس، وهي منطقة ساحلية تقع على بعد حوالي 50 ميلًا من الحدود الليبية.

اليوم، تعتبر مشارق الباحثة الرئيسية في مشروع ممول من مجلس البحوث الأوروبي، الذي يحركه سؤال مركزي: "كيف انتهى الأمر بهذه الجثث هنا؟".

وتقول مشارق: "في السنوات الأولى، لم يكن الناس يهتمون كثيرًا بالموتى"، وأضافت: أن "المهاجرين التونسيين غادروا على متن قوارب أكثر ثباتًا وطرقًا أكثر أمانًا، وغرق عدد أقل منهم".

جهود للتعرف على هوية الجثث

لكن منذ تموز/يوليو 2019، تغير الأمر، عندما جرفت الأمواج 87 جثة على شاطئ جرجيس. كانت مشارق هناك في رحلة بحثية، وقالت إن "الشرطة كانت مرهقة. وحمل عمال نظافة الشوارع الجثث في شاحناتهم". إذ تم نقلها إلى مدينة قابس، التي تبعد حوالي 90 ميلًا شمالًا، والتي يوجد بها مستشفى مجهز لإجراء تحاليل الطب الشرعي. ومنذ ذلك الحين، قام طبيب هناك، وآخر في مدينة مدنين بفحص الجثث التي جرفتها الأمواج إلى الشاطئ في جرجيس.

وتشير مشارق: إلى أن "ما نجحت به قابس، هو إمكانية التعرف على الأشخاص بناءً على أمتعتهم الشخصية، ملابسهم أو الأشياء التي يحملونها معهم". وإذا كانت الجثة تعود لمواطن تونسي تبحث أسرته عنه، فإن تحديد الهوية يكون سهلًا نسبيًا، وتضيف مشارق: "لكن عندما يتعلق الأمر بالتعرف على جثة عشوائية مجهولة، جرفتها الأمواج إلى الشاطئ، كان الأمر أكثر صعوبة".

وخلال فترة أربعة أعوام من 2017 إلى 2021، في أحد المستشفيات الكبرى في مدينة صفاقس جنوب شرق البلاد، لم يتم التعرف على ثلاثة أرباع الضحايا، وفقًا لتقرير صادر عن متخصصين في الطب الشرعي. ويقول مسؤولون في المجال العمل الإنساني، إن "مطابقة عينات الحمض النووي مع الأقارب في بلدان أخرى تتطلب قاعدة بيانات دولية، مما يسمح بشكل مثالي لأفراد الأسرة بتقديم عينات محليًا".

لا تكترث الدول، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي، بالعمل بشكلٍ جدي من أجل تحديد هوية ضحايا غرق القوارب في طريق الهجرة إلى أوروبا

ويقول فلوريان فون كونيغ، الذي يقود جهود اللجنة الدولية لإشراك الحكومات في قضايا الهجرة: "لكل هذا، نحتاج إلى وجود أنظمة واتفاقات قائمة، وإلى أن يعرف الناس بالفعل أن هذه السبل موجودة"، ويتفق الخبراء على أن العقبة الأكبر هي الافتقار إلى الإرادة السياسية.

وقالت مشارق: "هناك شيء يجب أن يتغير، لا يمكنك القيام بذلك على المستوى الوطني، ويجب أن يتم ذلك على المستوى الدولي، بسبب طبيعة المشكلة. أنت لا تعرف أين ستنجرف الجثة".

في تونس، دفن شمس الدين مرزوق، وهو ناشط وصياد سمك من جرجيس، المئات من المهاجرين  في مقابر مجهولة الهوية، وتعبر مثواهم الأخير. شواهدها الصغيرة ترتفع من أكوام التراب الحمراء. ويقول مرزوق: "كان هذا الصيف هو الأكثر كثافة التي مررنا بها"، المقبرة ممتلئة الآن. داعيًا إلى جهد من أجل التعرف على الجثث، بالقول: "هناك عائلات تنتظر أحبائها".