15-مارس-2023
أرتيريون أمام حافلة في أسمرا

(Getty) إريتريون أمام حافلة في أسمرا

عملتُ في جلي الصحون في أحد المطاعم العربيّة في مدينة كارديف البريطانيّة سنة 2017، وكان بشير يأتي بعد منتصف الليل لإكمال العمل. في أحد الأيام عرضت قناة الجزيرة فيلم "العساكر" فرأيت بشير يشاهده في الاستراحة، سألته عن رأيه فأجاب: يبدو وكأنّ الدكتاتورية منهجٌ موحّد، يدرسها حكامنا معًا، ويطبّقونها علينا كلّ بطريقته الخاصة. لم تأتِ هذه الإجابة من عبث، وعندما سألت بشير عن قصته، قال: قصتي طويلة سأحكيها لكَ يومًا. بعدها التقيتُ ببشير في أحد مقاهي كارديف، قصّ عليّ قصته، وها هو يرويها بنفسه:

*

اسمي بشير، أنا من إرتيريا من قرية تابعة لمدينة كرن، تُرجّح الأوراق الثبوتيّة القليلة أنّني ولدتُ في منتصف الثمانينيّات، دخلت المدرسة مع أبناء تلك الحقبة بحقيبة بسيطة وطموح أبسط، أنْ أحصل على أيّ مؤهلٍ علمي، وكلّما كبرتُ عامًا يزدادُ طموحي صعوبة أو لنقل استحالة، فأنا في إرتيريا حيثُ الآية معكوسة، يبدأ الناس حياتهم الجديّة في مرحلة الشباب، أمّا نحن الإرتيريون فإنّ حياتنا تتوقّف عند مرحلة الشباب.

في الحقيقة لا يوجد عمر محدّد للخدمة العسكرية في إرتيريا، قد يصادفك العسكر ماشيًا في الشارع فيقبضون عليك، بل إنّهم يفضلون اليافعين كي يربّوهم بمعزل عن الحياة الواقعية

أنهيت صفوف الثانوية في المدرسة سنة 2003، وظلّت السنة الأخيرة التي عليكَ أن تدرسها في معسكر ساوا، إن رسبتَ ستذهب إلى الخدمة العسكريّة إلى أجل غير مسمّى، وإن نجحت ستكمل تعليمك وتصبح موظفًا حكوميًّا براتبٍ لا يكفي قوتَ عيالك.

في الحقيقة لا يوجد عمر محدّد للخدمة العسكرية في إرتيريا، قد يصادفك العسكر ماشيًا في الشارع فيقبضون عليك، بل إنّهم يفضلون اليافعين كي يربّوهم بمعزل عن الحياة الواقعية، لتصبح حياتهم عسكريّة بالكامل، ويصبح لا إله لهم إلّا السلطة.

كان أمامي خياران أحلاهما مرّ، أن أهربَ خارج البلاد، أو أن أفني عمري عسكريًا، وفي الحالتين سأترك أهلي دونَ وداع. في إريتريا ما إنْ تبلغ الثامنة عشرة حتّى يبدأ أهلك بتدريب أنفسهم على فُجاءة غيابك، سيجيء ليلٌ ينامون فيه دونك، وسيعتادون بعد ذلك على فراغ مكانك. الأطفال والشيوخ هم غالبية المدنيين في إريتريا بالإضافة إلى بعض الشباب الذين يلجؤون للالتفاف على قانون العسكرة بدفع رشوة كبيرة لئلّا يذهبوا إلى الخدمة، وهم قليلون جدًا.

قرّرتُ مع صديقي سامي أنْ ننطلق صوبَ السودان، لن نحتاج نقودًا فنحن نعرف جهة الطريق ونجيد الحديث باللغتين العربية والتغرينية، انضمَ إلينا صديقان آخران، عامر وعلي.

قليل من التمر والماء وكثير من الصبر والأمل كانت كافية لنحملها وننطلق، نهارنا مليء بالجرود الغافرة، وليلنا حافل بالظلام والوِحشة، لم يُكفِنا الأملُ بالنجاةِ شرّ الخطأ، فسلكنا في اليوم الثالث طريقًا أطول من المعتاد، ونفد التمر والماء الذي معنا. مشينا يومًا كاملًا دون ماء أو طعام، الشعور بأنّ الحدود صارت قاب قوسين من خُطانا المتعبة يساعدنا على الاستمرار، لكنّ الخوف بدأ يزداد مع ازدياد احتماليّة القبض علينا من قبل هجانة الجيش الإريتري الذين ينتشرون على الشريط الحدودي محاولين منعَ عبور أيّ أحد إلى برّ النجاة.

في اليوم الخامس أنهكنا العطش والتعب، وسقط عليّ مريضًا ولم يعد يقوى على المشي أبدًا فتوقّفنا لبعض الوقت، مرّت بنا قافلة تهريب بضائع قادمة من السودان، أعطونا قليلًا من الطعام والماء فعادت إلينا بعض قوانا، لكن ظلّ رفيقنا متعبًا، حملناه ومضينا قدمًا. صادفْنَا عابر سبيل على ظهر جمله متجهًا نحو السودان فسألناه أن يساعدنا بالوصول إلى الحدود، تردّد الرجل في البداية، إن أمسكوه معنا سيُزجّ به في السجن بتهمة التهريب. رجوناه وتوسّلناه بحالة صديقنا فقبل. مشينا وراءه، وقبل الحدود بعشرين دقيقة تقريبًا وقعنا في كمين للهجانة، لا مجال للهروب، سيطلقون النار علينا ويقتلوننا.

بدؤوا بضربنا ضربًا مبرحًا، بينما كنّا نتوسل إليهم أن يتركوا الرجل الذي ظنوا أنّه مهرّب، أقسمنا لهم أنّنا صادفناه منذ ساعات قليلة وألّا علاقة له بنا، أشفق علينا قائد الفرقة فترك الرجل واعتقلونا، ثمّ نقلونا إلى السجن.

وضعونا في زنزانة صغيرة جدًّا وفي المساء قاموا بإنزالنا أربعة أمتار تحت الأرض، وأدخلونا مهجعًا يبلغ طوله خمسة وثلاثون مترًا تقريبًا وفيه أكثر من ثلاثمائة سجين، ثمانون بالمئة منهم شباب دون العشرين. بدا الأمر وكأنّك كنتَ على كوكب الأرض وفجأةً نزلتَ إلى الجحيم. أقسم أنّه لا يمكن وصف المشهد، وإن أمكن فلن يصدقني أحد.

في السجن نخرج مرتين على شكل مجموعات مؤلّفة من 60 سجينًا: صباحًا لتناول الفطور (خبزة، عدس، وكأس شاي)، ومساءً لتناول العشاء (خبزة وعدس). تقضي حاجتك بعد كلّ وجبة ثمّ تعود إلى تلك المقبرة الجماعيّة حيث يُمنع الحديث بعد العشاء، وإن تحدّث أحد سيتمّ معاقبة كلّ من كان في الجهة التي صدر عنها الصوت أقسى العقوبات.

كنّا ننام على الأرض المفروشة بالقش والخشب، من لديه وسادة فهي وسادة قش ومن لا يملك ينام على الأرض، حيث العقارب والرائحة الكريهة والفوضى التي لا يمكنك أن تتأقلم معها مهما بقيت هناك، إنّه أشبه بإسطبل قذر تقبع فيه أكثر من 300 روح بشريّة بأجساد هزيلة، يتمّ استغلالها في السخرة، لكأنّنا ما نزال في زمن العبوديّة.

في أحد الأيام تعرّض 12 سجينًا معنا لحالة تسمّم أصابتهم بالإقياء والإسهال الشديدين، كان الوقت ليلًا فلم يفتح الحرّاس الباب، تركوهم يتقيّؤون ويفعلون كلّ شيء على أنفسهم وسط ثلاثمائة شخص، كانت حالة مزرية، خوف ممزوج بالقرف والصراخ الذي لم ينتج عنه سوى فتح منافذ لإدخال الهواء النقي كيلا يختنق البقيّة.

كنّا ننام على الأرض المفروشة بالقش والخشب، من لديه وسادة فهي وسادة قش ومن لا يملك ينام على الأرض، حيث العقارب والرائحة الكريهة والفوضى التي لا يمكنك أن تتأقلم معها مهما بقيت هناك

أصبْتُ بحالة يأس شديدة وانعزلت عن الآخرين، لا أتحدّث مع أي أحد، فقط أجلس مقرفصًا صامتًا لا حول لي ولا قوّة، حاول البعض أن يخرجني من حالتي هذه، من بينهم رجل سبعيني مسجون بتهمة التهريب، قبضوا عليه وهو يساعد أحد الشباب في العبور إلى السودان، حاولَ أن يواسيني لكن دون جدوى، وبعد ستة أشهر ساءت حالتي الصحيّة إلى درجة أنّي لم أعد أستطيع المشي، أعطاني المسؤول الصحي دواءً وبعد ثلاثة أيّام أخبرته أنّني لم أتحسّن فسخر منّي قائلًا: "هل أصبحتَ طبيبًا حتّى بتّ تعرفُ بأنّ هذا الدواء لا فائدة منه؟"، وحينَ أجبته أنّ هذا جسدي وأنا من يشعر به، طردني.

بعد أيّام، ساء وضعي الصحيّ أكثر، جاءني رجلٌ ستيني وحاول أن يهوّن عليّ، ثمّ حاول أن يتواصل مع المسؤول الصحي ليشرح له سوء حالتي وأنّ عليهم نقلي إلى المستشفى، نجح الأمر أخرجوني إلى قسم الإسعافات الأوليّة، حيث قام المسؤول الصحي بضربي بالسوط بشكلٍ وحشي، واقتادني إلى باحة السجن تحت شمس لا تقل حرارتها عن 45 درجة ثمّ أمرني بأن أركض، وما إن ركضت قليلًا حتّى أغمي عليّ.

في المساء حينَ خرج السجناء لتناول وجبة العشاء رآني ذلك الرجل الستيني فغضب وانفعل وراح يصرخ: "والله لم نرَ هذا إلا زمن الاحتلال الإثيوبي".

أخذوني بعدها إلى المستشفى العسكري، كان هنالك أطباء حقيقيّون، أعطوني أدوية مختلفة وأعادوني إلى السجن، وبعد أسبوع لم يتغيّر شيء، فأيقنت أنّ الموت بات وشيكًا، تمنّيت لو أنّي أستطيع أن أرى أمّي وأبي للمرّة الأخيرة كي أعتذر منهم، لكن كيف وهم لا يعرفون بأيّ أرضٍ أنا؟

أعادوني إلى المستشفى العسكري مرّة أخرى، وحين جاء الطبيب نزلتُ وقبّلتُ قدمه متوسلًا ألّا يعيدني إلى السجن لأنّي سأموت هناك ولا أريد أن أموت، سألته بأهله وأولاده أن يبقيني هنا فأنا إنسان مثله وأريد أن أعيش. تأثّر الطبيب بما قلته ووعدني أنّ سيحاول جاهدًا أن يفعل ما بوسعه. رفض الضابط المسؤول أن يبقيني في المستشفى لكنّ الطبيب حاول مع مدير المستشفى الذي وافق في نهاية المطاف.

في المستشفى كنت آكل وجبات طعام غير العدس، أشرب العصير والماء النقي، أتنفّس هواءً نظيفًا وأنام على فراشٍ ووسادة حقيقيّين، وهذا ضربٌ من ضروب الرفاهية التي أعادت إليّ قواي بعد ثلاثة أشهر وصرتُ أمشي على قدميّ، فقرّروا إعادتي إلى السجن مرّة أخرى حيث بقيت هناك لمدّة سنة كاملة ثم أمروا بنقلنا من أقصى غرب البلاد إلى أقصى شرقها، حيث سنبدأ جولة سخرة طويلة نبني فيها معسكرًا جديدًا في منطقة صحراويّة شبه مقطوعة تحت حراسة شديدة. في النهار نحمل الحجارة من الجرود كما الآلات، وفي الليل نحاول أن نقاوم موجة الغبار التي تكاد تكتم أنفاسنا، محاطين بمدرعات الجيش ورشّاشاتهم، إنها أقصى حالات اليأس، لكن فقدان الأمل من كلّ اتجاه ولّد عندي فكرة الهروب.

اقترحت على صديق لي أن نهرب، أعجبته الفكرة لكنّه أراد أن نشاركها مع الآخرين، فكلّما زاد عددنا زادت فرصة النجاح، وهكذا توسّعت الدائرة وبدأنا ننسق بين بعضنا، لم يكن قرارًا سهلًا، لكنّها معركة وعلينا خوضها، حيث لا يهم من سينتصر أو من سيموت، المهم أن ننهي هذه المعركة.

تطوعَتْ مجموعة من 12 شابًّا ليكونوا على الخط الأوّل حيث سيبدؤون ساعة الصفر فإن انتبه الحراس سيحاولون تشتيتهم والاشتباك معهم إن أمكن. كانت خطتنا بسيطة، ما إن يطفؤوا أضواء الكشّافة ليلًا حتى ننطلق، وفعلًا انطلقت المجموعة مباشرة بعد أن أطفأ الحرّاس الأضواء، لم يستوعبوا الفكرة حتى انطلقنا جميعًا وانقسمنا إلى قسمين، قسم أخذ جهة اليمين وآخر أخذ جهة الشمال ولأنّي كنت متعبًا جدًا في تلك الليلة أخذت جهة المنتصف ورحت أركض، حين أشعلوا الأنوار الكاشفة رأيتُ عددًا هائلًا من ظلال الهاربين تعدو بكل الاتجاهات، بقيت أركض وأركض حتى خرجت من منطقة التماس المباشر مع العسكر فيما صوت الرصاص لم يتوقّف، اختبأتُ خلف جذع شجرة يابس، وحين اقترب منّي عسكريان ومعهما مصباح، حاولتُ التراجع بهدوء فعلق قميصي ببعض الأشواك، سمعني العسكريان فبدأا بإطلاق الرصاص، انبطحتُ أرضًا ورحت أزحف على بطني بأقصى سرعة ممكنة ظنًّا منّي أنهم قادمون نحوي، لكنّها كانت إشارة لإحدى المدرعات كي تأتي إلى هنا، كان العسكر مرتبكين أكثر منّي، هم يتسابقون مع الزمن، وأنا كذلك، فلو حرّكوا أضواءهم مترًا واحدًا لرأوني واضحًا دون أيّ ساتر، وما إن استدار ضوؤهم حتى استجمعت قواي وتابعت الركض، فجأة شعرت أنّي في الهواء ثمّ سقطتُ بوادٍ رملي، لذت بشجيرات صغيرة على طرف الوادي واستلقيت على ظهري مصغيًا إلى الأصوات حولي، صراخ، بكاء، رصاص، هدير سيارات، ولشدّة إصغائي نمت.

لا أعرف كم نمت ولا أعرف أين سأتجه أو حتّى كيف سأخرج من هذا الوادي الكبير؟ بقيت أمشي وأمشي حتّى أشرقت الشمس، الآن صرتُ أعرف الاتجاهات، عليّ أن أضع الشمس في ظهري وأتجه صوبَ الغرب، حرارة شهر حزيران/يونيو والرطوبة المصاحبة تكاد تكتم أنفاسي، أمشي بمحاذاة الوادي، وكلّما قطعتُ مسافة تزداد حرارة الشمس أكثر، أنظر إلى يمني وشمالي ولا أرى شيئًا، فيزداد شعوري بالتعب والعطش حيث صار حلقي يلتصق ببعضه من شدّة الجفاف.

مشي بمحاذاة الوادي، وكلّما قطعتُ مسافة تزداد حرارة الشمس أكثر، أنظر إلى يمني وشمالي ولا أرى شيئًا، فيزداد شعوري بالتعب والعطش حيث صار حلقي يلتصق ببعضه من شدّة الجفاف

لم أجد شيئًا أبول فيه، فرحتُ أبول قليلًا في كفّي وأشربُ كي أرطّبَ حلقي الذي ما يلبث يعود ناشفًا فأبول قليلًا في كفي وأشرب، وهكذا حتى نفد البول، وبقيتُ أمشي حافيًا، وِجهتي هي النجاة، لكنّي لا أرى طريقَها، أمشي على جمرِ الرمالِ وكلّما علَتْ الشمسُ أكثرَ، نقصَ الأملُ بالوصول، فحينَ أنظرُ بعيدًا أخدعُ نفسي أنّي قد أجد أحدًا، وحينَ أنظرُ أمامَي يُصيبُني اليأسُ، يبدو أنّه لا مكانَ للحقيقة في هذه الصحراء، كلّ شيءٍ يخضعُ للبخت.

رأيتُ تلّةً بعيدة، قرّرتُ أن أمشي صوبها، إن وصلتها ولم أجد أحدًا سأموت بلا شكّ، كلّنا سنموت في النهاية، وأرجو ألّا تكون تلك التلّة هي النهاية. مشيتُ قليلًا وإذ بي أرى آثار أقدام إنسان مع جمله، يبدو الأثر جديدًا، مدّني هذا بطاقة عجيبة، ورُحت أتبع ذلك الأثر حتّى أعلى التلّة، ها أنذا أرى بضع شجرات يجلس في ظلّها رجلٌ وجمله، لا أعرف كيف وصلتهم، لم أستطع أن أتحدّث ولم يسألني الرجل أيّة سؤال، مدّ يده وناولني الماء فبدأتُ أشرب وأشرب، قال لي الرجل: على مهلك ستقتل نفسك، لكنّي بقيت أشرب دون توقّف حتّى وقعتُ أرضًا.

سألني الرجل بعد أن هدأت قليلًا أن يضع لي طعامًا فأخبرته أنّ الماء كافٍ، فسألني عن قصتي، أخبرته أنّي هربتُ من السجن، قال لي: أَ تقصد ذاك السجن الذي يبنونه؟ وأشار بيده.

يا إلهي يبدو أنّني كنتُ أدور في مكاني، كان السجن قريبًا ويمكن رؤيته بالعين المجردة. أعطاني الرجل حذاءه، ركب الجمل وقال لي اتبعني بسرعة، وبقينا نمشي حتى وصلنا إلى مفترق طرق، أرشدني إلى الطريق الذي سيوصلني إلى مكان آمن أعطاني قليلًا من الماء، أخذ حذاءه وتابع مسيره، وتابعت مسيري.

بدأت الرمال تحرق قدمي الحافيتين، خلعتُ قميصي وشققته إلى نصفين، لففتُ به قدمي ومشيت قرابة الثلاث ساعات حتى وصلت أوّل قرية، استضافني أحد أبنائها، جلب لي طعامًا وملابس وماء، أعطاني حذاءً وأرشدني بعدها إلى طريق آمن صوبَ قرية أخرى قائلًا: "ادخل أيّ بيت هناك أنت آمن".

وفعلًا وصلتُ تلك القرية حيث أكرمني أهلها بالطعام والمبيت، وفي اليوم التالي أرشدوني إلى الطريق الآمن وحمّلوني مع إحدى القوافل المتجهة صوبَ مدينة أفعبت التي تبعد عن قريتي خمس ساعات في السيّارة، وبعد مسيرة 15 ساعة وصلنا أفعبت، نمتُ هناك، وفي اليوم التالي أخذتُ طريقًا جديدةً ومشيتُ على قدميّ لأكثر من ساعتين حتّى امتلأ حذائي بالقيح، فتوقّفت في أقرب قرية، نمت هناك، وفي اليوم التالي ركبتُ الباص المتجه إلى مدينة كرن وقبل أن نصل ببضعة كيلومترات نزلت وسلكتُ طريقًا فرعيّة تجنّبًا لحواجز الجيش، وبعد أن وصلت مدينة كرن تناولت الغداء، شحنتُ همّتي وانطلقت صوب قريتي التي باتت تبعد أقلّ من 25 كلم من هنا عبر طرق فرعيّة.

وصلتُ بيت أهلي عند المساء، كنت في حالة يرثى لها، حين دخلت الحوش صرخَتْ أختي الصغيرة وهربت إلى أمّي، ظنّتني رجلًا مجنونًا، وحين خرجت أمّي لم تقل أية كلّمة حضنتني وراحت تبكي.

بقيت مختبئًا في بيت أهلي لأكثر من سبعة أشهر عرفتُ خلالها أنّه نجا من حادثة الهروب خمسة أشخاص وأنا سادسهم، وقُتِل اثنا عشر شخصًا برصاص الجيش الإريتري فيما مات ثمانية بعد أن ضلوا طريقهم في الصحراء، أمّا سامي فقد أمسكوا به لكنّه استطاع الهروب لاحقًا، وبعد أن اجتمعت به كرّرنا محاولة العبور إلى السودان بعد أن صار عندنا خبرة كافية في تحمّل أعباء السفر الطويل، لكنّه البخت مرّة أخرى، لم ننجح، أمسكوا بنا وأخذونا إلى سجن محلّي استطاع والدي أن يجد وسيطًا دفع له رشوة كي يحوّلوني هذه المرّة إلى الخدمة العسكريّة ولا يعيدوني إلى السجن الكبير، كذلك فعل والد سامي.

بدأنا الخدمة الإلزاميّة في معسكر حشفراي، سامي وأنا، وبعد شهرين مرضَ سامي فأخذوه إلى المستشفى ثمّ حوّلوه إلى السجن الكبير مرّة أخرى بتهمة الهروب السابقة، هناك انتحرَ سامي، أطلق على نفسه النار.

جاءني أمر من أحد المسؤولين بأن أجمع أغراضي وأتجه إلى مكتبه، توجّست من هذا الأمر وشعرتُ أنّني في خطر، خرجت بطريقة طبيعيّة بحجة قضاء الحاجة في الوادي القريب، وما أن دخلته حتّى رحت أجري صوب قريتي التي تبعد أقل من ساعة، اختبأتُ هناك، لكنّهم أمسكوا بأبي ووضعوه في السجن، إمّا أن أسلّم نفسي أو سيظلّ أبي في السجن.

التقيتُ بأمّي بعد أسبوع، قالت لي: أرجوك يا ابني لا تترك أباك في آخر عمره "يتبهدل" في السجون. ذهبت وسلّمت نفسي وضعوني في سجن مدني بمساعدة أحد أقرباء أبي الذي يعرف مسؤولًا في المخابرات، برّر لي موقفي على أنّي سلّمت نفسي وأنّني لم أرتكب أي جرم جنائي. نقلوني إلى معسكر ويعا المخصص للفاريّن، يقع ويعا في أسوأ المناطق على الحدود مع إثيوبيا، أمضيت فيه شهرين من التدريب على خطّ النار، إلى أن حصلت معركة بين الجيش والمتمردين الإريتريين فألقيت سلاحي وهربتُ، لا يمكنني أن أقتل أبناء بلدي.

عدت إلى قريتي، ملاذي الوحيد، وبقيت أراوغ حملات الاعتقال والمداهمة لمدّة سنة وشهرين لا أنام في بيت أهلي.

التقيت بأربعة فارين من الخدمة الإلزاميّة مثلي، قصدنا الحدود السودانيّة مرّة أخيرة ونجحنا في العبور، وصلنا السودان في أواخر عام 2008، وخرجتُ من هناك سنة 2012 قاصدًا المملكة المتحدة التي وصلتها في أواخر العام 2013.


  • أجريت هذه المقابلة مع بشير في آذار/مارس 2018، والآن بشير يعمل مع شركة أمازون بعد أن أصبح مواطنًا بريطانيًّا.