03-أبريل-2019

من أرشيف النكبة 1948

يرتبط المخيم الفلسطيني ارتباطًا عميقًا لا فكاك منه بالنكبة الفلسطينية الكبرى 1948 التي أنتجته، من حيث كونه أثرًا لسياسات التطهير العرقي الإسرائيلي الممنهج التي اتبعت ضد سكان الأرض الأصليين، بقصد طردهم من المكان الذي عاشوا فيه إلى اللامكان، أي المنفى.

المخيم الفلسطيني من حيث الجوهر تجسيد فعلي لمفهوم المنفى، من خلال عملية طرد من مكان تم تملكه من قبل أصحابه على نحو روحي

المخيم الفلسطيني من حيث الجوهر تجسيد فعلي لمفهوم المنفى، من حيث أنه عملية طرد عنيف من مكان تم تأثيثه أو تملكه من قبل أصحابه على نحو روحي إلى مكان غريب موحش لا يمت لهم بصلة. وفق هذا المعنى للغرابة أو الوحشة يصير كل فلسطيني، منفيًا وابن مخيم في آن واحد، حتى لو أقام في أرقى مدن العالم، ذاك أن المنفى يحرم الناس الداخلين في فضائه من حق الاعتراف بهم كأشخاص طبيعين يحق لهم ما يحق لغيرهم من الناس الذين تكرموا باستضافتهم.

اقرأ/ي أيضًا: النكبة في عيون "العربية".. هرتسل الحالم والفلسطيني الشرير!

لا يمكن للمرء القبض على مفهوم المخيم كمنتج للقبح الذي يشوه الشخصية الإنسانية للمقيم فيه، إلا من خلال فهم علاقة الإنسان العامة بالمؤقت والطارئ والوحشي كمقابل للدائم والمقيم والحميمي. في انفتاح المخيم على الطارئ أو المؤقت، يحيلنا للتعرف عليه كسجن من حيث عمق العلاقة بين السجن والمؤقت، فالسجن في جوهره حالة من تخفيض الاعتراف بآدمية الشخص الذي ارتكب جرمًا ما، والذي لا يمكن له استعادتها إلا عبر المرور بطقوس تحول جديدة، على شكل ندم وتوبة تسمح له بالتحول من البربرية إلى الآدمية. الشيء المرعب في حالة المنفى من حيث كونه سجنًا عدم وضوح الذنب أو العمل الجرمي الذي ارتكبه المقيمون فيه، إلا إذا نظرنا إليه كنوع من عقوبة الذنب بلا ذنب، أي باعتبار التحول للمنفى من دون إرادة مسبقة هو نوع من الجريمة بحد ذاتها.

أما المفارقة الثانية التي نجدها في المنفى أو المخيم كسجن، فهي أن العقاب الذي صمم ليحيق بالمقيمين فيه يكاد يرقى إلى نوع من العقاب الأبدي الذي لا نهاية له، إذ إن الفلسطيني المنفي الذي قدر له الإقامة في المخيم لا يمتلك أية إمكانية حقيقية للعودة للمكان الذي طرد منه.

تقوم فكرة السجن الجوهرية على انتزاع الحرية من الشخص المقذوف داخله، فالفلسطيني في مخيمه أو منفاه محروم من حق التنقل، سواء داخل حدود الدولة المضيفة له، أو بينها وبين الدول الأخرى، كونه حاملًا لوثيقة انتقال مؤقتة وليس لجواز سفر، فيبدو مثل شخص تم تخفيض وجوده وحركته في إطار مكان محدد كما لو أنه ناقل للعدوى، عدوى التمرد ومقاومة الظلم والاحتجاج عليه، التي يخاف حكام الدول الأخرى الانتقال إلى شعوبهم.

يواجه الفلسطيني في إقامته في المؤقت، أي في المخيم، كل أنواع الحرمانات وعلى رأسها الحرمان من العمل، الذي رأى فيه ماركس المعبر الذي ولج منه الإنسان من حالة الوحشية والبهيمية إلى حالة التحضر، فقيمة العمل ليست في تملكنا ما ننتج أو نبدع، إنما في تملك المكان الذي ننتج فيه، أيًا تكن طبيعته وشكله سواء كان حقلًا أو محلًا تجاريا أو حافلة ركاب، الأمر الذي لا يمكن تحققه في حالة المخيم كونه وسطًا غير معد أصل للعمل وإنما لحفظ حياة الناس المقيمين فيه على قيد الحياة، لا بوصفهم أناسًا في حالة وجد أو فقد، بل من حيث كونهم كائنات غريبة أو وحشية تحمل في طياتها إمكانية نقل لعنتها إلى المكان الذي حلت فيه. إن إمكانية تملك المخيم من قبل المقيمين فيه، أي الانتماء إليه، أمرغير قابل للتحقق كون التملك خاصة نوعية ترتبط بالدائم، لذا فلا عجب في أن يصير المخيم وفق تلك السياقات السوداء علامة من علامات الجحيم الكبرى، التي تجعل من كل مؤقت ولحظي علامة من علامات اللعنة والشقاء الأبديين.

أن تعيش في المخيم كحالة نضالية تهدف إلى استعادة فلسطين، يعني أن تتعايش مع علاقات السلطة الهرمية والتفاوتات الاجتماعية في نوع من الرضا

لا يمكن للمرء فهم الحماس الكبير لدى أبناء المخيمات للانخراط في أعمال الثورة الفلسطينية 1965، إلا إذا أخذنا بالاعتبار رغبة أبنائه في تحطيم العلاقة الكابوسية بين المخيم والمؤقت، تلك العلاقة التي كانت تجعل من المخيم علامة دالة على الذل وهدر الكرامة الإنسانية. فلكي يتم ذلك لم يكن الفلسطينون بحاجة لهدم الوحدة المعمارية بوحدته البنائية "الخيمة" واستبدالها ببيوت التنك أو الطين، وإنما كانوا بحاجة لإغناء الدلالة الرمزية لكلمة خيمة، من حيث كونها خيمة للاجئ المغلوب على أمره إلى خيمة الفدائي المتطلع للعودة إلى فلسطين لكي يحقق وجوده الإنساني.

اقرأ/ي أيضًا: محمود درويش.. شاعر منظور النكبة

في ردة فعل بعض الفلسطينيين أمام عجز المخيم عن تحقيق القدرة على استعادة فلسطين ارتدوا للوقوع في حبائل إغراء فتنته، إلى الدرجة التي جعلتهم يندفعون لرفعه إلى مصاف الأداة المعيارية التي يتم من خلالها تحديد قبح الأشياء وحسنها، كونهم تعرفوا عليه من خلاله قيم البطولة والفداء التي تفرض نوعًا من التضامن العميق في حالة صنع المصير المشترك لجماعة بشرية في حالة تهديد وجودي. أن تعيش في المخيم كحالة نضالية تهدف إلى استعادة الجنة الموعودة فلسطين، يعني ذلك أن تتعايش مع علاقات السلطة الهرمية والتفاوتات الاجتماعية كنوع من الرضا الداخلي العميق، الذي يصبغ العلاقات الأسرية بطابعه، فالناس في معركة التحرير الوطني إما كلهم رفاق أو إخوة، وفي المقلب الآخر لمواجهة قلق المصير إما شهداء أو مقاومون.

لا يمكن لنا فهم المخيم الفلسطيني على حقيقته إلا إذا تعاملنا معه كسيرورة دائمة من التحولات المولدة لحالات نوعية من التمايزات، التي تقطع كل واحدة مع الأخرى دون أن تحدث تحولًا نوعيًا في مفهوم المخيم كتجسيد للمنفى. ففي بداية اللجوء أو النفي تعرّف الفلسطيني على المخيم باعتباره مكانًا للذل والنبذ والإقصاء، وعدم الاعتراف بالخصوصية الفردية للشخص المقيم في داخله. أما مع انطلاقة الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1965 وتأسيس منظمة التحرير، فقد تم التعرف عليه كمحطة للعودة، حيث أصبحت فلسطين المشتهاة أو المستحيلة ممكنة.

إثر توقيع اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير استبشر الفلسطينيون، لأول مرة في تاريخ صراعهم، لاستعادة فلسطين إمكانية استبدال المخيم الذي عاشوا فيه بالقرى والمدن التي طردوا منها، إلا أن هذا الشعور بالبهجة سرعان ما تم كبته بفعل السياسات الإسرائيلية التي عملت على تعطيل أي إمكانية لحل مشكلة اللاجئين. إزاء هذه الحالة من العطالة السياسية للمخيمات التي تقع خارج فلسطين، ما يزال البعض يصر على التعامل مع المخيم كما في سيرته الأولى كمحطة للعودة، أو يملي النفس بأن يصير بديلًا فردوسيًا للجنة المفقودة غير مدرك أنه برغبته تلك لا يترك أمامه من حظ أو فرصة سوى التعامل معه كبرزخ لا قاع له ولا قرار.

لا يمكن لنا فهم المخيم الفلسطيني على حقيقته إلا إذا تعاملنا معه كسيرورة دائمة من التحولات

ثمة إحساس مثير للشفقة وللدهشة في اكتشافنا للوضعية الحالية التي صار عليها المخيم باعتباره برزخًا قبريًا، حيث ما من فعالية حقيقية لأبنائه سوى الوقوع في فخ انتظار معجزة تمنح ساكنيه أمل العبور إلى ضفاف الجنة المفقودة. في رفض واسع للحالة البرزخية التي تحول لها المخيم منذ أمد بعيد نجد كثير من الفلسطينيين، وخاصة الذين يعيشون في مخيمات اللجوء في سوريا ولبنان، يسارعون للتخلص من وضعيتهم السابقة كبشر منفيين ينتظرون حلًا سحريًا لوضعيتهم كلاجئين أبديين، بغية البحث عن أوطان جديدة تتيح لهم القطع مع حالة المنفى التي سبق لهم أن عاشوها.

اقرأ/ي أيضًا: صنّاع النكبة الفلسطينيون

ثمة في المقابل من يجادل بأن تخلص اللاجئين الفلسطينيين من حالة المنفى وتمكنهم من العيش في أوطان جديدة، يعزز انتماءهم العميق إلى وطن آبائهم، ويساهم في دعم صمود أبنائه في الداخل، متجاهلين الاحتمال الآخر الذي قد يدفع بسكان المخيمات وبأبنائهم من بعدهم إلى الذوبان في المجتمعات الجديدة، دون أية إمكانية للعيش حتى في الشتات، كون الشتات يحمل في داخله إمكانية تشكيل جاليات كبيرة موحدة ثقافيًا وقيميًا، الأمر الذي لا يوفره المكان الجديد لأبناء المخيمات القادمين من غياهب برزخهم القبري وتيههم، كونه سيظل يطالبهم بضرورة الاندماج والعيش فيه كمواطنين كاملي الأهلية ذوي انتماءات حصرية للوطن، الذي وفّر لهم فرصة التعافي من بؤس المنفى وعذاباته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ركن الورّاقين: من أثر النكبة

المخيم ومضاعفة النكبة