19-سبتمبر-2023
فوي فوي

وضع الصحافة في مصر متردٍّ

بعض الفنانين يفضلون الابتعاد عن الأضواء، أو إجراء الحوارات الصحفية، أو الظهور في اللقاءات التلفزيونية، على عكس آخرين تجدهم في كل مكان طالما سُيدفع لهم مقابل ظهورهم الإعلامي.

في عالمنا العربي مثلًا، نجد الفنان عادل إمام أو عمرو دياب يبتعدان عن الصحافة والإعلام، وقلما يظهران على الشاشات إلا من خلال عمل يقدمونه، وقد يكون هذا الأمر من الذكاء الفني حتى لا تنكسر الصورة الذهنية للفنان لدى جمهوره، أو يظهر في صورة ضحلة وجاهلة إذا انجرف الحديث إلى شؤون السياسة والمجتمع.

الممثل الأمريكي خواكين فينيكس، الحائز على جائزة الأوسكار عن دوره في فيلم "الجوكر" (2020) عُرف عنه ابتعاده عن الإعلام وكرهه للمقابلات الصحفية، وتعامله الوقح في بعض الأحيان مع الصحفيين، ولم يبدأ في التصالح مع الصحافة الفنية وفهم دورها إلا في السنوات الأخيرة، حسب مقابلة مع موقع IndeWire في عام 2021. ويرجع البُعض أسباب عزوف فينيكس عن الصحافة إلى العام 1993 عندما توفى أخيه الممثل ريفر فينيكس بجرعة مخدرات زائدة، وتمكُّن أحد الصحفيين من الوصول إلى المكالمة الهاتفية لخواكين مع خط النجدة 911، ونشر هذه المكالمة دون أي اعتبارات أخلاقية، حيث بكى خواكين وتوسل من أجل سرعة النجدة، بينما أخوه يحتضر.

هناك فنانون يبتعدون عن الصحافة والإعلام، وقلما يظهرون على الشاشات إلا من خلال عمل يقدمونه، وقد يكون هذا الأمر من الذكاء الفني حتى لا تنكسر الصورة الذهنية للفنان لدى جمهوره

في لقاء صحفي مع صانعي فيلم "ڤوي! ڤوي! ڤوي!"، سأل أحدُ الصحفيين الممثلَ محمد فرّاج بطل الفيلم: "شايف إيه ناقصك إنك تبقى نجم صف أول، وتتصدر أفيشات، وأفلامك موجودة في السينمات في مصر والعالم العربي؟". لم يعجب السؤال مؤلف الفيلم ومخرجه عمر هلال، ولا منتجه محمد حفظي، وبطبيعة الحال لم يُعجب فرّاج نفسه، فجاء رد المخرج استنكاريًا ساخرًا مستخفًّا بما قاله الصحفي، وأخبره أن سؤاله ليس له معنى.

اعترض كثير من الزملاء الصحفيين على الطريقة الفوقية التي تعامل بها فريق العمل مع الصحفيين، وطالبوا بضرورة وجود آليات لحماية الصحفيين من الإهانات التي يتعرضون لها من المصادر، ولكني أختلف مع زملائي بأنني لم أرَ إهانة فيما فعله فريق العمل، إنما سخرية واستخفاف مستحق على قدر سخافة السؤال وضحالته، وأظن أن الصحفي نفسه يدرك ذلك، حتى أنه لم يدافع عن وجهة نظره.

في عام 2016، حضرت الزميلة شيماء عبد المنعم من جريدة "اليوم السابع"، حفل توزيع جوائز الأوسكار، وهو الحفل الذي فاز فيه الممثل الأمريكي ليوناردو دي كابريو بجائزة الأوسكار لأول مرة عن فيلم "The Revenant"، وعندما حانت الفرصة للزميلة الصحفية لسؤال دي كابريو سألته بكل سذاجة: "ماذا عن فوزك بالأوسكار لأول مرة؟ - واط أبوت يور فرست أوسكار - فكان رد دي كابريو ساخرًا متعجبًا: "ماذا عنه؟ نعم إنه الأول"، ثم ضجت القاعة بالضحك.

بكل تأكيد، وضع الصحافة في مصر متردٍّ، وأصبحت المهنة بلا ثقل كما في الماضي، والصحفيون مذلين مهانين، والمصادر تتعامل مع الصحفيين بكل ازدراء، ولكن أين العيب؟ أعتقد أنه ليس من الصواب إلقاء اللوم بالكامل على المصادر التي تستخف بالصحفيين، فالمؤسسات الصحفية والصحفيون أنفسهم لهم دور في ذلك، فكم رأينا من غير الأكفاء يمارسون المهنة ويحضرون الفعاليات الهامة، فقط لأنهم أقارب رئيس التحرير أو لديهم صلة مع دوائر السلطة، ثم يضعون الصحافة المصرية كلها في موضع حرج وفي صورة قاتمة وفاسدة.

واقعة الأوسكار كانت فضيحة تعكس المحسوبية والفساد داخل المؤسسات الصحفية المصرية؛ كيف وصلت صحفية بهذه الضحالة إلى تغطية أهم حدث سينمائي في العالم؟ وتعرضت عبد المنعم حينها لهجوم شديد من زملائها الصحفيين قبل الآخرين، لأنها أساءت لهم وأساءت للمهنة. بينما في حالة محمد فرّاج، كان الهجوم موجّهًا لفريق عمل الفيلم، دون اعتبارات أخرى لتردي حال الصحافة وبالأخص الصحافة الفنية في مصر، ما سمح حتى لأنصاف الموهوبين للتطاول على الصحفيين الذين بدورهم ينافقون هؤلاء الأنصاف ويقبلون تطاولهم وإهاناتهم بابتسامات بلهاء، فكم رأينا من فنانين صاعدين أو مغنين لا يمتلكون في تاريخهم أكثر من بضع أغنيات ويتعاملون مع الصحافة باستحقار.

ينطبق ما سبق على المصادر في المجالات الأخرى، خاصة السياسية، فبسبب غلق المجال العام، واشتداد القبضة الأمنية، انحسرت أعداد المصادر أو الخبراء الذين لديهم الشجاعة للاشتباك مع الشأن العام أو إبداء رأي في مسائل سياسية أو مجتمعية، حيث اختار معظمهم الانزواء والابتعاد عن الظهور الصحفي أو الإعلامي إيثارًا لسلامته ولأمانه الشخصي، فما تبقى من خبراء قادرين على التعليق إنما يتعاملون مع الصحفيين بعنجهية وتعالٍ غير مبررين، لأنه يعلم أن الصحفي بحاجة إليه، بعكس ما كان يحدث عندما كانت الساحة مفتوحة للجميع، حيث كان الخبراء حينها يتعاملون بكل أدب واحترام مع الصحفيين، ويتمنون أن يحادثهم أحد لأخذ رأيهم.

كذلك لا يمكن إغفال دور الصحفي في هذه المعادلة، تعاملت مع مصادر وخبراء من مختلف أنحاء العالم، الغالبية أدركوا دورهم وتعاملوا باحترام، والبعض الآخر خاصة من الخبراء المصريين، تعاملوا بعنجهية أو تجاوز لدورهم ومحاولة فرض وجهة نظرهم أو التنظير على طريقة العمل. ومهما كان لهذا الشخص من أهمية، فيجب للصحفي رد الاعتبار لنفسه وتذكير المصدر بدوره، ففي كل الحالات، الصحفي هو قائد الدفة القادر على رد كرامته إن تعرض للإهانة، فكما يُقال، لا أحد يمكن أن يمتطيك إذا لم تنحنِ.

كثيرًا ما تعرض الصحفي المصري الراحل مفيد فوزي للتوبيخ من الفنانين والضيوف بسبب تجاوزه لدوره الصحفي، أو أسئلته غير المهنية، أو سلوكه الفظ

كثيرًا ما تعرض الصحفي المصري الراحل مفيد فوزي للتوبيخ من الفنانين والضيوف بسبب تجاوزه لدوره الصحفي، أو أسئلته غير المهنية، أو سلوكه الفظ، ففي إحدى المرات حاول التسجيل مع الفنان فؤاد المهندس قبل دخوله إلى خشبة المسرح مباشرة، وسأله سؤالًا ساذجًا لا يختلف عن نوعية "واط أبوت يور فرست أوسكار"؛ سأله: "أستاذ فؤاد، ايه إحساسك وأنت داخل المسرح؟"، فما كان من فؤاد المهندس إلا أن صرخ في وجهه بأنه ليس وقتًا مناسبًا. وفي مناسبة أخرى، وبّخته الراحلة سناء جميل لأنه في أثناء الحوار المصوّر، بدأ في قزقزة اللب وإلقاء القشر على الأرض، فقامت بتنظيف الأرض وأخبرته ألا يفعل هذا السلوك.

إذا كان الصحفي مدركًا لدوره جيدًا، مالكًا لأدواته، فلا أحد يستطيع أن يهينه أو يحقّر من عمله أو شخصه، حتى رئيس أكبر دولة في العالم، إذ رأينا كيف حدثت مشادات عديدة بين الصحفيين وبين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ودافع الصحفيون عن مواقفهم ووقفوا ندًا للرئيس الأمريكي وتسببوا في إحراجه وفضحه أمام العالم.. لن يدافع عنك أحد إذا لم تعرف كيف تدافع عن نفسك وعن وجهة نظرك وعن موقفك.

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، وجّه صحفي سي إن إن سؤالًا للرئيس الأمريكي ترامب حول وضع المهاجرين، وسؤالًا آخر عن التدخل الروسي في انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية 2016، فقاطعه ترامب ورد عليه بكل فظاظة، بل أهانه ووصفه بأنه شخص وقح وفظيع، وأن وعلى سي إن إن أن تخجل من توظيف صحفي مثله، وما حدث تاليًا أن زميله الصحفي قبل أن يسأل ترامب أشاد بالصحفي السابق، وقال إنه عمل معه سابقًا وكان مراسلًا ممتازًا.

بعد هذه الواقعة بفترة قصيرة، في كانون الثاني/ يناير 2019، حدثت مشادة أخرى بين ترامب ومراسلة شبكة سي إن إن، بسبب سؤاله عن الوعود الانتخابية التي لم تُنفذ، وفشله في بناء جدار فاصل من الإسمنت بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك، وكان للمراسلة القدرة للدفاع عن وجهة نظرها ولتكذيب ترامب وتذكيره أنه قاله سيبني جدارًا من الإسمنت وليس من الفولاذ، عندما حاول التنصل من تصريحاته ووعوده السابقة.

نموذج آخر من الصحفيات الواثقات القادرات على ممارسة عملهن بحرفية، ففي خضم بدايات انتشار فيروس كورونا أيار/ مايو 2020، وعندما كانت الاتهامات توجّه إلى الصين، سألت ويجيان جيانغ، مراسلة شبكة سي بي إس دونالد ترامب سؤالًا متعلقًا بالوباء وبإجراءات الولايات المتحدة في التصدي له، ولماذا يعتبر ترامب أن أمريكا تعمل بشكل أفضل من باقي الدول وكأنهم في مسابقة، في حين أن الأمريكيين يموتون كل يوم، فرد عليها ترامب، مرة أخرى، بوقاحة قائلًا إن الناس يموتون في كل مكان، وأن عليها أن توجه هذا السؤال إلى الصين، في إشارة اعتبرها البعض تمييزًا وعنصرية، كون المراسلة من أصول آسيوية.

لم تقبل جيانغ هذه الإهانة وتبلعها في صمت، بل واجهت الرئيس وحاسبته؛ لماذا يوجه إليها هذا الكلام تحديدًا؟ هل لأنها من أصول آسيوية؟ واضطر ترامب في النهاية إلى الانسحاب من المؤتمر الصحفي.