20-أكتوبر-2018

تصفية خاشقجي هو إسكات صوت مقلق جدًا لابن سلمان، مسموع في الخارج (واشنطن بوست)

أسئلة عديد تطرحها قضية مقتل الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي، ومن بين الأسئلة الجوهرية في هذه القضية، التي باتت تتصدّر صفحات الجرائد العالمية وعناوين نشرات الأخبار عربيًا ودوليًا، هو: لماذا قتل النظام السعودي خاشقجي؟ والسؤال المتتابع: هل كانت الحاجة القصوى لتصفية الصحفي بهدف إسكات صوته للأبد تستدعي كل هذه المخاطرة من النظام السعودي؟

ربما كان يعتقد ابن سلمان بعملية اغتيال خاشقجي، أنه يناكف الأتراك أو "يعلّم" عليهم، ولا تهمه ردة فعلهم، ولكنه حتمًا أساء التقدير

لا خلاف أن ولي العهد محمد بن سلمان، رغم شدّة طيشه وتهوّره، كان يعي أنه يقدم على مخاطرة باغتيال صحفي في قنصلية بلده في تركيا بالذات. وهي مخاطرة مزدوجة، أولًا من حيث الجانب الأمني/الجنائي المتعلق بإمكانية كشف الحقيقة، وهو ما يحصل فعلًا منذ اليوم الأول عبر اعتماد تركيا لإستراتيجية التسريبات الصحفية عبر معطيات موثقة تنقلها بشكل متواتر الصحف التركية والبريطانية والأمريكية، وذلك بغض النظر عن الإخراج النهائي الذي لم يُعلن بعد لهذه الحقيقة؛ حقيقة تورّط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بشكل مباشر في عملية التصفية.

اقرأ/ي أيضًا: السعودية أمام سؤال خاشقجي.. تناقضات وخطوات إلى الخلف

وعلى الأرجح، في هذا الجانب، لم يتبادر البتة لذهن ابن سلمان وفريقه أن الأتراك لديهم تقنيات تسمح بالقيام بتسجيلات صوتية داخل مبنى القنصلية والتعرف بدقة على الحوارات بين فريق الاغتيال ومدة عملية القتل والتقطيع، وكذا معرفة فريق الاغتيال اسمًا اسمًا بل وكشف ثبوت الاتصال بمكتب ولي العهد زمن تنفيذ الاغتيال. أهو ضعف فادح للأجهزة السعودية أم نجاح خارق للأجهزة التركية؟ ربما هو الغباء والاغترار بالنفس أولًا.

وأما الجانب الثاني من المخاطرة، فيتعلق بالكلفة السياسية، ولا غرو أن ابن سلمان لم يكن بغافلٍ عن تبعات هكذا خطوة -من حيث أنها تمثل اعتداءً على السيادة التركية- على العلاقات بين البلدين. وابن سلمان، من هذه الزاوية، لا يهتم كثيرًا للعلاقة مع تركيا التي اعتبرها قبل أشهر أحد أضلع "ثالوث الشر"، وقد منع بث مسلسلاتها على الشاشات السعودية. مقاطعة ربّما تهمّ بدرجة أولى ربات البيوت ومحبي الدراما التركية، ولكن قبل ذلك، فإن مغزاها تصعيد سعودي ضد تركيا، في ظل الاختلاف، بل المواجهة، في عديد الملفات منها حصار قطر  والتعامل مع القضية الفلسطينية. فابن سلمان تكفيه الإدارة الأمريكية، والمباركة الإسرائيلية للمضي غير مكترث بغيرهما.

بل ربما كان يعتقد ابن سلمان بعملية الاغتيال، أنه يناكف الأتراك أو "يعلّم" عليهم، ولا تهمه ردة فعلهم، ولكنه أساء التقدير، ليس بخصوص الرد التركي الذي لم يتبلور بعد، بل بالنظر للتبعات الدولية للفعلة الشنيعة.

كان ولي العهد يعتقد أن ملف خاشقجي لن يكون أكثر من ملف تصعيد/عداء ديبلوماسي ثنائي بين أنقرة والرياض، وليس ملف دولي بامتياز منذ اليوم الأول. ولكن حينما يقول الحليف دونالد ترامب، إن قضية خاشقجي أشعلت إحدى أكبر الأزمات الدولية منذ دخوله للبيت الأبيض، يغني هذا القول عن الكثير في الحديث عن صدى هذه القضية دوليًا، بشكل ربما لم يتبادر لذهن ابن سلمان وحواريه للحظة. إذ استنزفت، إن لم تكن قضت، في بضع أيام على صورة ولي العهد "الإصلاحي"، الصورة التي لطالما عمل ابن سلمان طيلة ثلاث سنوات على بنائها وتجميلها، بتجنيد أكبر جماعات الضغط في الغرب من خلال الإيهام بمشروع "إصلاحي" يتبين في كل مرة زيف شعاراته وخواء مضامينه.

فالكلفة السياسية المنتظرة، والتي يترقب العديد قيمتها النهائية، وقد تبلغ للقضاء على آمال ولي العهد في الوصول للعرش؛ هي خلاصة السيناريو الأسود الأشدّ قتامة، إن اعتبرنا طبعًا أن ابن سلمان يضع كأي سياسي جميع السيناريوهات أمامه حين إقدامه على أي خطوة!

ورغم المذكور، فقد غامر ابن سلمان على القيام بالعملية، في البداية، بغض النظر عن مسألة سوء تقديره في النهاية، أي بغض النظر عن السيناريو الجاري الحالي على مستوى ردود الأفعال الدولية، فإن قدرة الأتراك على كشف الحقيقة جنائيًا فقط، كان سيكون مكلفًا أيضًا لوحده، وذلك بحمل تركيا لورقة ضد السعودية، وإن كان ابن سلمان بنفسه غير آبه، كما أشرنا، لأي تصعيد مع تركيا، وعليه كانت هناك مغامرة في كل الأحوال. بيد أن همّ ابن سلمان كان أشد، وهو ببساطة التخلص من جمال خاشقجي.

تصفية خاشقجي هو إسكات صوت مقلق جدًا مسموع في الخارج، وبالخصوص في دوائر القرار في الولايات المتحدة، وهو بالخصوص صوت يتحوّز بالمعطى، وخاشقجي تجوّل لسنوات طيلة في أروقة قصور الأمراء ومكاتبهم وبين أجهزة الدولة وقد كان مستشارًا للأمير تركي الفيصل رئيس جهاز الاستخبارات لنحو ربع قرن، وعليه فهذا التحوّز لدى من ينظر إليه كـ"متمرد" يقلق أي نظام.

هو كاتب صحفي لديه عمود قار في "واشنطن بوست"، ولكن يحمل أيضًا صفة باحث فيُستدعى دوريًا لدى مراكز البحوث الأمريكية لتقديم وجهة نظر حول السعودية أو قضايا المنطقة العربية بما يخالف السياسات المستجدة للمملكة. فكان بصفتيه ككاتب صحفي وباحث، يستنزف الصورة التي يسعى ابن سلمان بنائها في واشنطن، وهو استنزاف سرعان ما يتحوّل لمصدر إحراج، ذلك أن المتحدث يعرّي بهدوء ودون تشنّج المستور، والأهم أنه متحدث يعرفه الأمريكيون جيدًا، وموقفه يُبنى عليه في التحليل والتقدير.

تثمل تصفية خاشقجي  إسكاتًا لصوت مقلق جدًا للسعودية مسموع في الخارج، وبالخصوص في دوائر القرار في الولايات المتحدة الأمريكية

بيد أن صوت خاشقجي لم يكن يثير قلقًا في الخارج فقط، بل كذلك في الداخل، أولًا على مستوى الأسرة، فخطابه يدفع نحو تدعيم موقف التيار المتململ من الخط التقليدي المحافظ سياسيًا داخل العائلة، وهو الخط المنكوب منذ صعود ابن سلمان، وثانيًا على مستوى النخبة والعموم، ذلك أن قوة خطاب خاشقجي أنه ليس خطاب مواجهة، بل خطاب احتواء. وهو يتمتع بمصداقية، ذلك أنه لم ينكث بيعته، لا يعارض دولة ونظام، بل يعارض سياسات وخيارات. 

اقرأ/ي أيضًا: رواية السعودية عن مقتل خاشقجي.. خيال غير علمي!

وهذا الخطاب هو الأكثر مقبولية في أوساط النخبة والسعوديين عمومًا، دونما ظهور خروج خاشقجي عن البيت السلماني كـ"دليل" إدانة ضد ابن سلمان، إذ بات الكاتب الصحفي يُضرب به المثل على مدى رفض النخبة المقربة من السلطة تاريخيًا لتهور الأمير الصغير الطائش.

الشاب السعودي، الجامعي أو الموظف، الذي يعتقد بفكرة "الدولة السعودية" ولكنه يستاء من تغول وفساد الأمراء والاستحواذ على القرار دون تشريك، ويتساءل حول معاداة دولة شقيقة ومد اليد للصهاينة، ويتحسر على التقاعس في دعم فلسطين والاندفاع في معاداة الثورة العربية، ويؤلمه أن يرى أصدقاءه العرب على تويتر يصفون بلده بـ"البقرة الحلوب"، ويسوءه أن يرى موجة غير مسبوقة لتكميم الأفواه. هذا الشاب يجد نفسه في خطاب خاشقجي.

هو شاب يهمه أن تقود المرأة السيارة، ولا يرى مانعًا أن تُقام حفلات تامر حسني في الرياض، ويسعده أن يجد فيلمه الأمريكي المنتظر في قاعة سينما مجاورة. لكنه يريد أن يعبر عن رأيه دون خشية لأنه يعلم خواء حديث إصلاح في جو ترهيب، وأن يُسمع صوته لأنه مواطن سعودي وليس رعيّة عليه السمع والطاعة فقط، وأن يرى بلده منحازًا لقضايا الأمتين الإسلامية والعربية، لأنها تقول عن نفسها إنها قائدة للأمة، وكذلك أن يستشرف أن بلده في الطريق الصحيح، وليس بصدد مغامرة، خاصة وأنه على الأرجح يسمع دائمًا أباه وجده يتحسّران على عهود الملوك السابقين.

 شاء ابن سلمان باغتيال خاشقجي في الخارج، وبتلك الطريقة، أن يقول إنه قادر على الوصول لمعارضيه، وإنهاء حياتهم

بنتمي خاشقجي  ولا ينتمي لتيار الصحوة، وللإخوان، ولليبراليين، ينتمي ولا ينتمي، لأنه أخذ من كل تيار أفكار ومواقف، ولكنه لا يمكن أن تحسبه على هذا التيار أو ذاك، وحينما تتفحص مواقفه تجد صعوبة في وضعه في خانة صارمة. الوصف الأصلح والأكثر أمانة بأنه إصلاحي، وهو إصلاحي الفكر والتوجه.

وهو يعبّر دائمًا عن تعلّقه ببلده ويجلّ الحاكمين، فهو لا يريد أن يظهر لدى السعوديين كمعارض مثله مثل سعد الفقيه، ولدى الأسرة الحاكمة كناكر للجميل وهو كان مقربّا مطلّعًا على أسرارها. قبل مقتله بيوم واحد، انتقد خاشقجي على حسابه على تويتر إهانات ترامب في تجمعاته الانتخابية للسعودية بمعادلة "المال مقابل الحماية"، فعلق سعودي ساخرًا بأن لهجته أصبحت ناعمة تجاه السعودية، فكان رد خاشقجي: "وطني وأهلي".

ولم يغادر خاشقجي مكانته التاريخية، كمثقف في دائرة السلطة، لأنه لم يجد موقعًا في دفة ابن سلمان الجديدة، التي حملت صبيان تعساء مثل تركي آل شيخ وسعود القحطاني، ولكن لأن ابن سلمان شاء، منذ البداية، إبعاد كل من لا يواليه مطلقًا، وتحديدًا أولئك الذين كانوا من حول الأمراء النافذين طيلة السنوات السابقة وهو إبعاد بدافع الأمان وبمعنى الإسكات، فابن سلمان يعوّل على رجال جدد يقودهم، وإبعاده يعني تضييقات وسجون ومنافي. وهو إبعاد لحقته محاولات تقريب لإسكات صوت مقلق، ولكن ردّ خاشقجي وعود العودة الآمنة، لأنه لا يستأمن فتى طائش.

لاشك بوجود تعاطف شعبي سعودي مع خاشقجي بعد مقتله الثابت، خاصة بالنظر لطريقة مقتله المتداولة، ولكنه تعاطف لا يظهر على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن من يريد أن يتعاطف معه أو يترحّم عليه ولو بجملة إنسانية بعيدًا عن حديث السياسة، يخشى أن يظهر كمعارض للدولة، وقبلها كخائن، فعائلة خاشقجي نفسها متوجّسة وحذرة.

ربما شاء ابن سلمان باغتيال خاشقجي في الخارج، وبتلك الطريقة، أن يقول إنه قادر على الوصول لمعارضيه، وإنهاء حياتهم بالقوة مهما هربوا، ويزيد في إشاعة حالة الخوف والترهيب في الداخل السعودي من التعبير عن الرأي. ولكن شاء، أساسًا، أن يقتل صوتًا يخيف بل يرعب أحيانًا.

يصرّ العديد اليوم على التذكير بتاريخ خاشقجي كمثقف في فلك مملكة آل سعود، تذكير دعوة لعدم تضخيم صورته كمدافع عن الحرية والديمقراطية. ولكن ربما جمال خاشقجي هو دليل أن الخطاب الإصلاحي الذي يترك المساحات وينقد دون قطيعة ويعطي الفرص، أي الذي قد يبدو لك لينًا أو مهادنًا أو متواطئًا أحيانًا، هو خطاب يصل أحيانًا ما لا يصله الخطاب الجازم العدائي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بالأدلة والتفاصيل.. كيف تستدرج السعودية معارضيها في الخارج؟

اغتيال خاشقجي وهوس السلطة بالقتل