08-أكتوبر-2017

صادق كويش الفراجي/ العراق

قد تحسد أرضٌ جرداء أرضًا معشوشبة على خضرتها ولونها الجميل ووفرة الزرع على وجهها، فهذه غريزة طبيعية يذهب إليها كل كائن إلا من كان في قرارة نفسه مكتفيًا بما لديه، ونادرًا ما يحدث الاكتفاء. ولكنني لم أعتقد بأنني سأشهد حسد رجل لرجلٍ آخر على وفرة اللحية السوداء على وجهه واكتمالها وتغطيتها لكامل خدوده ورقبته.

يبدو أن إسقاطات ومجازات المثل الإنجليزي القائل بأن "العشب أكثر خضرة على الجانب الآخر" قد تعدّت المعقول لتصل إلى عتبة الغيرة من سواد اللحية، دون فهم ما يتجرعه صاحبها من تبعات لهذه المصيبة التي كلما حاول التخلص منها نبتت وعادت أكثر قسوة وخشونة.

هل تتذكر الكاريكاتور الذي يصور كيف أنّ رجلين يقفان متقابلين وبينهما رقم مرسوم على الأرض، حيث يرى أحدهما من زاويته الرقم على أنه ستة ويرى الآخر الرقم على أنه تسعة، ولا يصلان للاتفاق ولا يشاهدان المشهد نفسه؟

هكذا كانت لحيتي بيني وبين صديقي الأوروبي، فكل منّا يرى ما يريده من زاويته، هو يرى اللحية على أنها الرجولة الكاملة وذروة الجمال الرجولي الذي يشتهيه، وأنا أرى اللحية على أنها التهمة المرعبة التي لا أستطيع تركها تنمو لتأكل وجهي، وترعب من حولي إذا ما زادت عن حدّها وتوغلت في سوادها وفي عدم شرعيتها.

عندما كنتُ في المرحلة الإعدادية كنت أتوق وأنتظر اللحظة التي تبدأ لحيتي بالظهور والنمو، حتى أنني كنتُ أضع معجون الحلاقة وأمرر الموس على خدودي، كتدريب على ما يجب أن يكون في المستقبل القريب طقسًا من الطقوس اليومية أو الأسبوعية، ولكنني لم أتوقع أبدًا أن تقودني الحياة لأتمنى لو كنتُ مصابًا بالثعلبة مثلًا، أو أن تنحرف جيناتي عن مسار جينات العائلة، الجينات التي قررت في اجتماعها التأسيسي الأول أن تكون حاملة للخشونة ومورّدة لا منتهية للسواد، كثقب أسود يبتلع الألوان والاحترام الإنساني من أول نظرة بلا هوادة ولا كلل أو ملل.

اللحية التي كنت أحلم بها لكي ألتحق بصفوف الرجال، اللحية التي كنت أنتظرها لكي أدخل إلى البارات وأطلب القهوة الإيرلندية دون أن يسخر مني النادل لأنني صغير على هكذا طلب، أو أن يرمقني بشك حتى بعد أن أشهر له هويتي، اللحية التي كانت سوف تجعل الفتيات يحلمن بملمسها أو بخشونتها وبخشونتي، هي اللحية نفسها الآن، التي أحلقها قبل أن أذهب إلى المطار أو إلى مقابلة قاضي اللجوء، أو إلى عرس أوروبي متحضر، لا يحتمل ضغط الدم في عروق فستان العروس الأبيض سواد وجدية لحيتي.

هل صلب المسيح بسبب لحيته الجميلة غيرة وحسدًا؟

هل احتفظوا بجثة جي غيفارا وصوروها لأنه لم يحلق لحيته قبل أن يقبضوا عليه؟

لو كانت لحية بابا نويل سوداء، هل كانت ستدعمه شركة كوكا كولا وتجعله رجلها الأول في موسم الأعياد؟

لماذا كان على الله أن يكون بلحية بيضاء طويلة، ألا تعرف أن البياض هو خليط من الألوان التي تتحرك حول نفسها بسرعة كبيرة؟ لماذا كان الأسود البطيء مكروهًا ومحرومًا من احترام إعاقته المستديمة؟ 

دعني أخبرك لماذا لم أشتر كلبًا خلال فترة إقامتي في الريف، لأن اللحية حيوان أليف أيضًا، كان عليّ أن آخذه وأتكفل بالترويح عنه في الخارج ثلاث مرات في اليوم، بكل تأكيد إن مسؤولية اللحية كانت كافية لئلا أتحمل مسؤولية كلب آخر.

هل تعرف الفرق بيني وبيني مع لحية؟

أنا جامح طفولي عفوي أستطيع أن أطلب وجبة "هابي ميل" من ماكدونالدز فقط لأنني تركتُ لحيتي في البيت. هل تعرفني في الزي الشتوي، موقر محترم أحمل معي كل الأحكام المسبقة التي أنتجها المجتمع، ولا أتفوه بكلمة قبل دراستها ألف مرة ومرة.

كانت غرفة التدخين في مطار لوبيانا صغيرة جدًا، بالكاد تتسع لخمس أشخاص بصعوبة وكان عليّ الانتظار لكي يخرج أحدهم لكي أحشر نفسي وأستمتع بسيجارة قبل إقلاع الطيارة التالية.

مشيتُ إلى آخر المطار الصغير حيث الحاجز الزجاجي الذي يحرسه رجل الشرطة وخلفه غرفة تدخين صغيرة فيها رجل واحد فقط، مما شجعني على السؤال إذا ما كان من الممكن أن أدخن سيجارة في تلك الغرفة قبل رحلتي الوشيكة وكانت الإجابة بالرفض سريعة وبرر بأن الغرفة مخصصة للأشخاص الذين سيتم ترحيلهم بعيدًا عن البلاد لارتكابهم جريمة ما أو لنقص أوراقهم القانونية، ولكنني لإدماني ولحكة في الجلد نتيجة لنقص النيكوتين في الدم كررتُ طلبي فنظر إليّ من فوق إلى تحت وركز على لحيتي الكثة التي لم أحلقها كما اقتضت العادة قبل أن أذهب إلى المطار هذه المرة.

فتح الشرطي الباب الزجاجي وعلى وجهه ابتسامة عريضة هامسًا بأن لحيتي تكسبني صلاحيات لا يحصل عليها غيري من المسافرين الحليقين.

اختليتُ بنفسي مع الشاب الذي سيتم ترحيله بعد قليل وعلى وجهي ابتسامة عريضة، أدخن سيجارتي الرفيعة وأرمق الأوروبيين الشقر قليلي اللحية الذين ما زالوا ينتظرون خروج أحد المدخنين في الغرفة الأخرى..

نعم، قد تحسد أرض جرداء أرضًا ثانية لكثرة العشب على وجهها، ولكنها ستحسدها أكثر لو كانت تريد أن تدخن سيجارة ومُنعتْ من ذلك لأنها تبدو صغيرة ولا ترتقي لمرتبة الرجال الكبار الملتحين المحكوم عليهم بالترحيل بعد الانتهاء من التدخين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كمن يحفر قبرًا لأبيه

شظايا ناعمة في مديح الخير