21-فبراير-2021

لوحة لـ جورج كيرن/ ألمانيا

خدعة كبيرة أتقنّا تمثيلَ دورنا بها، السيناريو وضعناه مما أُلقيَّ أمامنا أثناء بحثنا عن شيءٍ ما مِنّا يدلّنا على ما نريد، وما أردناه لم ينجو من معايير اختبارات الإحصاء التقليدية، فحملناه على أكتافنا كمادةٍ جامعية لَم تُنجَز.

تعلّمنا ما تعلّمنا من قوانين وقواعد كيميائية أنجتنا من توبيخ الأستاذ وغضب الأهل، رفَّعتنا رَقمًا في ملفّات المدارس وأفسحنا حيزًا جديدًا لغيرنا كي يشربوا ما شربناه من حقائق، متواطئون –نحن- مع المنظومة ذاتها، فلم نخبرهم أنّها لن تُفيدهم في غسلِ مرارةِ الأيام شيئًا.  

تغاضينا عن كل ما لم يتفق وأفكارنا، شَوَهنا قناعاتنا لكي نسير، إلى الأمام فقط كما طُلب منّا ولم يؤخذ برأينا ولو مرّة واحدة ما إذا كنّا نريدُ أن نكونَ ما يريدون.

خدعتنا المرايا بما عكست من صورٍ ظننّا أنها لنا، تعابيرٌ كثيرة ضاعت في المسافة الثابتة بيننا وبين حُلمٍ روادنا وأحببناه، ولقلِّة حيلة أصابتنا ضاعَ من يومياتنا، ونسيناه.

ما الحقيقة؟

لم نجد، رغم سعينا لمعرفتها، معنىً يدلُّ عليها ويطفئ غليان السؤال فينا، فظلّت كما هي، جُمَلٌ مغلّفةٌ بأفكارٍ وحِكَمٌ ومقولاتٌ ومعتقداتٌ وإيمانٌ خاصٌ بشيء ما، كلّها تدّعي أنها الأصح، والأجدرُ أن يتبعها كل البشر.

ولم تكن الحقيقة تلك الشجرة الواقفةُ منذُ أكثر من خمسينَ عامًا على بابِ البيت، كما لم تكن السرعة الناتجة عن قسمة المسافةِ على الزمن، فالثانيةُ الواحدة أطول على مُصابٍ بجلطةٍ قلبية منها على مشاهدي مباراة كرةِ قدم.

ولم تكن الحقيقة، حقيقية إلى الحد الكافي لنقتنعَ به.

*

 

هيَ مُرّة، كأنها كلُّ ما لا نتمناه أن يكون.

كأول رشفةٍ من كوبِ شايٍ مُمَلّح، خربطةٌ سريعة تضرب حواسّنا كلّها، فتُعيدنا إلى هاويةِ البداية.

والبدايات وَهمٌ آخر نختاره آملينَ براحةٍ بسيطة نجدها بنهاية المسار.

آه لو استطعنا تطويع التكنولوجيا لنُبرمجَ أدمغتنا على محوِ مذاقِ الشاي المالح منه، فنستلذ بهِ من جديد.

*

 

أكَلتنا فكرةُ إضافةِ المعنى لكلَّ قرارٍ نتخذهُ لنحققَ شيئا ما، فخسرنا متعة الضياعَ في متاهاتِ التجاربِ الجديدة، جُررنا إلى نفقٍ لا ينتهي بما نُريد لنحفرَ على حيطانهِ تاريخَ مرورنا آملين أن نُذكر ولو بنصفِ سطرٍ في سيرة المكان.

لا يَسمعُ المؤَبنُ الكلمات التي تستذكره حين يغيب، ولن يفرحَ المُستَذكرُ بالإطراء الذي يراهُ وهو لايقوى على المشي، وضجّة التصفيق في المسارح لن تُعيد لمبدعهِ مُتعة كتابةِ الفصل الأول، فلا حقيقة لهُم إلّا ما أنفقوا من عُمرٍ يفعلون ما يحبّون.

وما نتجنبُ الإعتراف به هو أننا نذهبُ لبيوتِ العزاء لنهنئ أنَفسنا بأن الموت أخطأنا هذه المرّة، وما زلنا في الوهم، كأنه الحقيقة الوحيدة.

*

 

نعيشُ وهمَ الإرادة والكينونة، السعي وراء ما نتمنى، وأحلامٌ لا تتسعُ لها قدرتنا، نُخدَعُ بكلمات عابرة بأننا أقوى من الطريق، وأنَّ التاريخ يُمكن أن يتغيرَ بجُهدٍ شخصي، تقتلنا أسطورة أسماؤنا التي لم يكن لنا أيُّ إضافةٍ تُذكر في اختيارها ونبدأ بِهدِّ الجبل بالإبرةِ الوحيدة التي نَملكُها، وحين يغلبنا، ندّعي أننا بذلنا ما نستحق لنكون أبطالًا، لكننا لن نعترفَ بهزيمتنا لأيِّ كان، فنحنُ الطرف الوحيد الذي كان له صوتٌ في هذه المعركة.

*

 

لم ينتصر أيٌّ منّا في حربٍ خاضها ضد الوقت، ومهما تجهّزنا لها، سيأكلنا عقربُ الثواني في دقيقةٍ أو دقيقتين.

قليلة هي اللحظات التي تغمرنا بنشوة النصر، فهي وإن طالت، خدعة اخترعناها لنجعل لوجودنا قيمة، وأننا ظفرنا بما نستحق، ننامُ ليلةً واحدة فارضين السيناريو الذي نُريد على أحلامنا، وكأننا ننسى كل تلك الليالي التي أفزعنا فيها جفافُ حلقنا ونحنُ نلهثُ هَربًا من سرابٍ يُطاردنا.

حافّة الرصيف صارت هدفًا نحاول أن نصلها، لنستريح.

لو مُنحنا رفاهية وضع الأسئلة الموجهةِ لجثثنا حين نُرافقُ الموت لوجدنا حينها من سيؤمنُ بنا، فالتعاطفُ مع الموتى أقل كُلفة، ومؤقت، كإبَر البوتوكس.

*

 

لو أننا سُئلنا السؤال المُناسب، لتغيّر معنى العُمر. ولو أننا لم نُوهَم بالعذاب القادم، لتجرأ كثيرٌ منّا وخاضوا تجاربًا أخرى غيّرت طعمَ الأيام.

ماذا لو كان السؤال الأخير؛

كيف كنت ترغب بأن تَفني عُمرك؟ لا فيما أفنيته؟

*

 

سترتاح الحقيقة حين تتأكد أنّهُ ما من أحدٍ يُطاردها، ستجلسُ كأثقلِ الزبائنِ دَمًا في مقهى شعبي، وحيدة، وستنهارُ كرماد الفحمِ الإصطناعيّ حين يهزّها آخرُ عُمّال هذا المصنع وهو في طريقه لإطفاء آخرَ ضوء سنراه.

حينَ نُترَكُ وحدنا تحت برودةِ اللوح الاسمنتيّ الذي أقفل كلَّ فراغٍ يمر منه النور، سنترقبُ الأفعى لتعصر عظامنا، وصوتين يبدأنِ بطرح الأسئلة..

حينها فقط، سيخطرُ في بالنا أنَّ الحقيقة الحقيقية،

هي لا شيء مما ذُكر أعلاه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

امرأة لا تنسى

لم أكُن مناسبًا للآخرين