07-أغسطس-2020

لوحة لـ كلود لورانس/ أمريكا

رهان

يرمي حقيبة ظهره كيفما اتفق، ويركض نحو الحمام ممسكًا عضوه الصغير بيديه لئلا يقطر منه شيء فيضيع رهانه. يفرغ ما تجمع في كيسه من الحقل حتى البيت، قطرات صغيرة ولكنها كافية ليناوله الحقل برتقالة. الحقل، الذي يملك صوت أمه، سخي وعطوف؛ حين يعطيه من وراء ستارة المطبخ حبة عينيه، لأنه لم يبل تحت أشجاره كبقية الأطفال. يضحك الولد كضحك من غافل الحقل وفاز منه برهانين، رهان البيت ورهان الطريق؛ حين ينزل كل يوم بنطاله مع الأطفال الآخرين، ويبول إلى أبعد نقطة فيه، فيتأوه الحقل الذي يملك حينها صوت رجل غريب، ويرمي إليه بقطعة سكاكر. الحقل طيب وسخي لكن ذاكرته قصيرة، هكذا يفكر الطفل وهو يخبئ عضوه ويضحك منتصرًا.

 

سُكّر أحمر

في طريق عودته إلى بيته، يمشي مترنحًا نصف غائب، يرتطم بأعمدة الإنارة ومقاعد الرصيف. يدحرج دون قصد أوعية النفايات، فتموء قطط الليل ككتيبة حرب. يشتم أسماء لا يعرفها، ويبصق على وجوه لا تظهر. يدخل مفاتيحه في أفواه بيوت الآخرين، فتصيح نسوة ويركله رجال. يعود إلى طريق بيته نصف قلق، تسنده الجدران وواجهات المحال. يذكر أن لبيته شرفة، كل البيوت حوله بشرفات. يذكر أن له سلالم، أول درجة فيها مشروخة، نصف سلالم المدينة درجتها الأولى مشروخة. يذكر أن أمام بيته عمود إنارة لا يعمل، العتمة المتمددة كجثة على الطرقات لا تساعده. يتذكر أن لا امرأة تنتظره في البيت، فيصل أخيرًا، تعبر بمحاذاته القطارات مسرعة وتركله أقدام مثله مترنحة. تفوح منه رائحة العنب، وتملأ جسده الكدمات، ولكنه لا يعلم من ترك قبلة على فمه حتى يقطر منه كل هذا السُكّر الأحمر.

 

امرأة الشرفات

يفكر في كوب قهوة دافئ بينما تعلق الريح في عظمه كالمسامير. ينفخ دخان سيجارته ويركز في استقامة المسافة بين الأحجار. يلمح سيدة البيت تجر ثوبها في الردهة الضيقة، يشف ثوبها عن جسد متوحش، ويعشش في عينيها الضجر. المرأة المتوهجة التي وصفت له شكل الشرفة كنصف قمر، وكان بإمكانها أن تقول نصف دائرة، متسعة للقطط والعصافير، وكان بإمكانها أن تقول آمنة للأطفال، تتدلى منها الحبال بثقة، وكان بإمكانها أن تقول يتسلقها الإكلير بيسر. المرأة التي تدور على نفسها كدخان سيجارة قالت إنها لم تهتم قبل بالشرفات لولا إصرار زوجها، المرأة التي تدور على نفسها كريح زوبعة لا يبدو أنها كانت تعني ما تقول.

 

الصرخة

كان الموديل المنهك يستلقي مستندًا على جنبه على طاولة مرتفعة في المرسم. عاريًا إلا من ضجره بعد يوم طويل من التمدد أمام طلبة السنة الأولى في كلية الفنون الجميلة. تأخر الوقت، كانت الشمس قد غابت منذ مدة ولم يتبق في القاعة إلا طالب واحد ينهشه القلق لسبب لا يعلمه. كان يضع فرشاته جانبًا ويبتعد عن اللوحة وهو يقضم أظافره ثم يلوي شفاهه ممتعضًا كأنه اقترف خطأً ما. كان الموديل قد أوشك على فقد صبره وهو ينظر إلى الساعة المثبتة فوق رأس الفتى، وقد جاوزت السابعة مساء، ما يعني أن عليه أن ينتظر قطار السابعة وخمس وأربعين دقيقة، وإن ضيعه جراء تململ الفنّان المغوار أمامه، فسيضطر لانتظار نصف ساعة أخرى؛ حيث تتباعد أوقات مجيء القطارات ليلًا. لم يعبئا طالب الفنون بتأففات الموديل ولا بإسبالاته ذات المغزى، وبقي على حاله يقترب من لوحته بقدر، ثم يبتعد بقدر، يهز رأسه بيأس، ويغوص في لوحته بحركات عصبية متوترة.

بعد نصف ساعة أخرى، كان صبر الموديل قد نفد عن آخره، وقد كان الطالب قد خرج ليستخدم المرحاض. قفز الموديل عن الطاولة مطقطقًا عظام جسده المتصلب، وساوره شعور بالفضول لرؤية عمل الفنان القلق الذي أخذ منه نصف أظافره وموعد قطارين. وقف الموديل مذعورًا وهو ينظر إلى تقليد رخيص للوحة إدوار مونش الصرخة.

جرى الموديل نحو باب المرسم، فوجده مغلقًا بإحكام. كانت الكلية في الخارج تغرق في العتمة. راح الموديل يضرب الباب بجسده العاري فلم يتزحزح، وحين حاول أن يصرخ مناديًا على أحدهم، لم يخرج من فمه صوت، كانت لوحة مونش المقلدة تنظر نحوه بفم مفتوح، يعتريها الذعر.

 

حادث سير

يمسكه رجلا الأمن من أكتافه، يجرانه عبر الممرات وسط النظرات المذعورة للجالسين في قاعة الانتظار. "أريد أن أرى طبيبًا" يصيح، "لقد تعرضت لتوي لحادث سير، لقد فقدت قدمًا، كيف ترمون بحالة حرجة كحالتي في الشارع، يا أولاد الكلب ربما أموت الليلة وسترفع زوجتي قضية تقصير على عيادتكم البائسة". يمشي في شوارع المدينة مثقلًا، كملح يذوب في كوب ماء، لا أحد يراه حين يربت على المركبات في الشوارع كقطط أليفة، لا أحد يرى ظل زوجته يتبعه ككل الموتى الطيبين، لا أحد يرى قدمه حين تسقط في الفراغ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كوابيس الرجل الفراشة

الحياة ترتدي ثوبَ الحشرات