15-يونيو-2017

سيدة مصرية تهتف بمصرية جزيرتي تيران وصنافير (فايد الجزيري/Getty)

طرق غامضة وملتوية لم تراع "الأصول"، لتسليم تيران وصنافير إلى السيادة السعودية. اللجوء لمحكمة القضاء الإداري، واعتماد محامين للطرق القانونية وانتصارهم، واستماتة تيار معارض للنظام على مصرية الجزيرتين الاستراتيجيتين، واستئساد الطرف الآخر عليهم مناصرًا السعودية على بلده وأرضه! والرئيس يأمر: "ما حدش يتكلم في الموضوع ده تاني"، والشعب يفتحه ويناقشه وينزل الشارع  رافعًا الأعلام المصرية، ورافضًا سياسات الرئيس، وعراك بين أعضاء مجلس الشعب، وسجال إعلامي يتبادل فيه كل طرف تهم الخيانة والعمالة للطرف الآخر، ورفع إعلاميين وبرلمانيين وسياسيين للعلم السعودي تأكيدًا على حق السعودية في الجزيرتين، كملكيين أكثر من الملك.

أظهرت قضية تيران وصنافير حجم الفرقة والاختلاف داخل المجتمع المصري بطريقة لم تفعلها قضية غيرها

كشفت قضية اتفاقية تيران وصنافير، حجم الفرقة والاختلاف في المجتمع المصري بطريقة لم تفعلها قضايا أخرى، مبرزة سمات كل تيار أكثر من غيرها، فعلى الرغم من تصفية وقمع وسجن الإسلاميين، وقمع السلطات التنفيذية المفرط لأي حراك معارض، إلا أنّ هذه القضية أثبتت ليس فقط وجود معارضة بالفعل، وإنما أيضًا قدرتها على "الأداء المزعج" للنظام. 

اقرأ/ي أيضًا: كيف سيعالج التاريخ قضية تيران وصنافير؟

تعتبر قضية تيران وصنافير دونًا عن غيرها، الأكثر تأثيرًا، فمنذ إثارة القضية والخريطة السياسية المصرية بدأت تطفو على السطح، فبدلًا من التيار الواحد المؤيد للنظام في قراراته الاقتصادية و"محاربته الإرهاب"، رأينا، ليس على مواقع التواصل الاجتماعي فقط وإنما على الأرض أيضًا، أصواتًا أخرى وكأنها خُلقت من العدم، البعض ينتمي إلى ما يمكن أن تسميته "التيار الثالث"، وهناك ولا يزال الإسلاميون، وأخيرًا من يُسمون بـ"الدولجية" المناصرين للسيسي باعتباره "رئيس الضرورة" أو "زعيمًا ملهمًا"!

معارضة بالنكهة الثورية

احتكرت فئات من الشباب صناعة "القرار الثوري" في السنوات الثلاث التي تلت ثورة 25 يناير 2011، ووسط مناخ ساده الاستقطاب السياسي وتلاه قمع تعسفي ضد الأسماء البارزة في تلك الثورة، وتشويهها، ساهم كثيرًا في إبعاد كتابات النقد الذاتي عن مشعلي ثورة يناير، وساعد ذلك في انصراف نسبة ليست بالقليلة من الشباب الناشط، عن العمل السياسي، لأسباب تتعلق بعشوائية و"شللية" إدارة الأحداث وصناعة القرارات في السنوات الثلاث التي أعقبت الثورة، ومخاطرة العمل السياسي من جهة أخرى بعد إصدار قانون التظاهر، وساد وكبر الشعور باللاجدوى مرة أخرى.

انتاب بعض الشباب حالة الحنين إلى الشارع، وإعادة الحراك الثوري بشكله المعروف في أحداث يناير، أكثر مما ظهرت قراءات تركز على البديل المرحلي الممكن، والغايات البعيدة لرؤيا متصورة أو متخيلة عن الدولة وشكل نظام الحكم المنبثق عن ثورة فريدة في التاريخ الإنساني، واستغلت أسماء "ثورية" بارزة الشاردة والواردة في نظام كثرت سقطاته، وبدت طريقة إدارته للبلاد عتيقة وعفا عليها الزمن، ودفعت بالأمور لاحتمالية إعادة الحشد لحالة يناير أخرى.

تُعد قضية تيران وصنافير مميزة للشباب الثوري لأنها كشفت عن الجانب الحيوي في محاولاتهم لتغيير ميكانيزم التعامل مع السلطة

وغذى تلك الحالة أن النظام لم يسمح بوجود كيانات فاعلة في اتخاذ القرارات أو في استشاراتها، وتتمتع باستقلال ذاتي عن الأجهزة التي تتخذ القرار، بل على العكس تعامل النظام مع إمكانية بروز تلك الكيانات بالاعتقالات التعسفية، والترهيب لعناصرها لصرفهم عن العمل السياسي المباشر، مثل ملاحقات طالت شباب حزب الدستور.

اقرأ/ي أيضًا: بسبب تيران وصنافير.. المصريون يكسرون قانون التظاهر

ولكن منذ إسقاط مبارك والحراك الثوري يتحرك بطريقة "القضية الواحدة"، فقد نزل آلاف الشباب لمنع حكومة الجنزوري عن أداء عملها، ونزلوا في محمد محمود، نهاية بقضية تيران وصنافير.

ويُضاف إلى ما سبق إلى افتقار الشباب الثوري لبرنامج أو ملامح رؤيا لخارطة طريق تستند على معطيات، ناهيك عن عدم وجود اصطفاف وطني شعبي خلفهم يحميهم من الضربات الانتقامية في حالة اقترابهم من السلطة.

وتعد قضية تيران وصنافير مميزة لهذا التيار، لأنها كشفت عن الجانب الحيوي في محاولاتهم لتغيير ميكانيزم التعامل مع السلطة، فقد دأبت السلطات بعد 2013 إلى اتخاذ قرارات دون الرجوع إلى الناس، إما بإثارة الموضوع وتلمس النبض العام، أو بمشاركتهم، إضافة إلى مشاكل تاريخية مع الإرث السياسي في التعامل مع "الرعية"، حيث الأوامر تفرض عليهم من عل، ويتم منع المعلومات عن الشعب، هذا الرفض لقرارات السلطة والالتزام بطرق السبل القانونية، والمطالبة الحثيثة لحق الشعب في معرفة التاريخ هو حيوي للغاية وينذر بتطبيق هذا النمط في قضايا أخرى إذا ما تمكن هذا التيار من الانتصار في أحقية مصر لتيران وصنافير.

لقد سادت معظم مشاهد الاصطدام مع السلطة منذ يناير 2011  صورة واحدة فقط: "ناشط حقوقي غاضب يشتم النظام، وسلطات تهاجمه في الإعلام وتضربه في الشارع وتعتقله"، ما أفقد الثورة زخم أن يلتحق بها مدرسون وأطباء وباحثون ومبرمجون ورجال أعمال صغار كل في مجاله وتخصصه، وما نراه الآن في قضية تيران وصنافير للمرة الأولى نجد حقوقيون في مجالهم أمام القضاء وليس الترشح للرئاسة، وباحثون وصحفيون يقدمون إسهامهم بالتخصص الذي يعرفونه، ومن خلفهم تيار يزداد غنى واتساعا رغم حملات التيأييس والتخوين.

التيار الآخر وهم الإخوان المسلمون والإسلام السياسي، والذين أبدو تعاطفًا كبيرًأ مع التراب المصري رغم نزعتهم الأممية التي تتجاوز حدود القُطر إلى اتحاد الدول الإسلامية. وتعاطف الإخوان مع القضية يبرز أكثر معارضتهم بغرض المعارضة، فكل ما يفعله السيسي في نظرهم سيء وضد الوطنية وضد الإسلام.

التيار الأخير الذي يُمثّل رؤية النظام في أن تيران وصنافير مصريتان. أصحاب هذا الموقف أمثال خالد البري، أبرزوا عشوائية البعض من التيار الأول في عرض قضيتهم، إذ استخرج خالد البرّي من الوثائق التي جمعها موقع معارض يناصر الحراك الثوري، أخطاء ربما تكون جسيمة، إذ تم الاستشهاد بوثيقة تُشير إلى سعودية الجزيرتين. وتُبرز تدوينة البري تساؤلات أهمها: ألم يقرأ أحد من هؤلاء تلك الوثيقة؟ ألم يقرأها أصحاب الموقع؟

الحدود المصرية

التساؤل الملح حول مقال خالد البري: لماذا يبحث في أكثر النقاط ضعفًا؟ لماذا لم يفند حججًا كتبت في مواقع وأماكن اُخرى؟ لماذا التركيز على انتقاء أكثر التحليلات ركاكة وعشوائية وإبرازها كممثل للتيار كاملًا؟ 

يبدي الإخوان تعاطفًا كبيرًا مع التراب المصري رغم نزعتهم الأممية، وهو ما قد يبرز أن معارضتهم بغرض المعارضة فقط

ثمّة تساؤل آخر، وهو: "لماذا تزيف الدولة تاريخنا العسكري؟ وذلك عن إنكارها نزول نقطة دماء واحدة من مصري على هذه الأرض، بينما كشفت الصحفية المصري مي سليم عن مقتل جنود مصريين في تيران في تحقيق صحفي لها، أصبحت به أكثر مصداقية من تقرير رسمي لمجلس الوزراء.

اقرأ/ي أيضًا: الميادين للثوار.. عودة "إسقاط النظام" في القاهرة

أمر آخر ربما لا يقل أهمية، وهو أنه قد يُختلف حول مصرية الجزيرتين، كما يُختلف في تقييمات الاستقطاب الإقليمي ضد قطر، ولكن هناك طرف أكثر حيوية من الطرف الآخر، هناك طرف يطرح أمورًا جوهرية مثل أحقية الشعب في معرفة سياسات النظام ومشاورته فيها، ويقوم بجهد صحفي وتحليلي أكثر عمقًا ومصداقية، مع اطلاعه على تاريخه، يتمثّل في أشخاص وكيانات، مثل المؤرخ المصري خالد فهمي والمحامي خالد علي ومعه مالك عدلي، وآخرون.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وثائق المخابرات الأمريكية: أسرار ما قبل "25 يناير"

هكذا نجح السيسي في فرض الرتابة والملل