25-أغسطس-2023
هواية جمع الطوابع البريدية (الترا صوت)

هواية جمع الطوابع البريدية (الترا صوت)

على مر السنين انغمست في كثير من الهوايات الشخصية، بدءًا بجمع الطوابع البريدية التي بدأتها في سن العاشرة أو أقل، سيرًا على خطى والدي رحمه الله، وتابعتها حتى يومنا هذا، مضيفًا لها مجموعة أخرى من الأخوات عبر السنين لتشمل هوايات القراءة، والزراعة، وجمع المسكوكات، ومشاهدة الأفلام، والطبخ، والرسم، والاهتمام بعوالم السيارات والساعات، ناهيك عن طقوس لعب الورق الأسبوعية في المقاهي مع أصدقاء الدراسة. وتأرجحت أهمية هذه الهوايات عبر السنين صعودًا وهبوطًا، فكانت متقلبة يسطع نجمها أو يخبو بناءً على تقلب مزاجي العام بتقلب الأزمان.

وفي عالم غدا فيه التطور المهني أمرًا أساسيًا في حياة الفرد، قد تبدو لوهلة فكرة السعي وراء الهوايات وملاحقة الشغف الشخصي بمثابة ترف يصعب تخصيص الوقت الثمين له. ولكن على العكس، فالحقيقة هي أن احتضان هواياتك يمكن أن يكون حافزًا سريًا للنجاح المهني واكتشاف الذات، وأبعد ما يكون عن كونه مجرد إلهاء وتشتيت للتركيز، فقد أثبتت التجارب لي بأن الانخراط في الأنشطة التي تحبها يمكن أن يفتح كثير من أبواب الفرص غير المتوقعة على مصراعيه، كما يمكنه أن يعزّز مهاراتك، ويعزّز التطور الشخصي بشكل عام. حيث يمكن لممارسة الهوايات إشعال الإبداع، وغالبًا ما تمتد هذه الشعلة الإبداعية إلى المجال المهني، فكلما انغمست أكثر في نشاط يثير شغفك، ستتوسع مداركك وقدراتك مما قد يمنحك ميزة أو أكثر في حياتك المهنية.

تساعدنا الهوايات على تنظيم الوقت، والتواصل مع الآخرين، وتزودنا بالكثير من القصص، إلى جانب ما تقدمه لنا من استرخاء يكون بمثابة ملاذ صحي من ضغوطات الحياة اليومية

وسأركز في مقالتي هذه على هواية جمع الطوابع البريدية كمثال، فما زال لهذه الهواية جاذبية خاصة لدي قد لا تلقى نفس الصدى أو الأثر لدى الجميع، حيث لا يجد الكثيرون مفهوم جمع الطوابع مفهومًا آسرًا أو مثيرًا مثل الهوايات الأخرى في أيامنا هذه، وخصوصًا هوايات قد ترفع مستوى الأدرينالين مثل تلك المرتبطة بالسفر ورياضات المغامرة.

ومع ذلك، لطالما كانت هذه الهواية أحب هواياتي لنفسي، وملاذي هربًا من ضوضاء الحياة وصخبها، هواية بدأتها بجمع مجموعات الأطفال في صغري بطريقة عشوائية في ثمانينات القرن الماضي، شجعني عليها عودة والدي رحمه الله لجمع الطوابع البريدية مرة ثانية، بعدما فقد كامل مجموعة طوابعه الأصلية في بداية السبعينات خلال أحداث أيلول الأسود، وعاد لمحاولة بناء مجموعته مرة أخرى في منتصف الثمانينات. ففتنت بعالم طوابع البريد وكنوز المعرفة والأسرار والفن بين ثناياه، وعزمت على الانتقال بشغفي لمستوى آخر، فعملت على تطوير هوايتي والاستثمار في مجموعتي لما يقرب من أربعة عقود، استثمرت فيها الكثير من الوقت وبعض المال من أجل مطاردة الطوابع التي أريد، حتى باتت مجموعتي الحالية تضم ما يقرب من خمسين ألف طابع بريدي، ولكن العبرة بالتأكيد ليست في العدد، حيث قد يمتلك بعض الجامعين بضعة طوابع تفوق قيمتها بمئات المرات مجموعتي كاملة.

وبعيدًا عن فكرة الاستثمار، فقد ساعدتني هذه الهواية على الاسترخاء وقدمت لي ملاذًا صحيًا من ضغوطات الحياة اليومية، لأن الاهتمام بالطوابع والتركيز في التفاصيل والتصميمات والغوص في التاريخ يساعد على خلق تجربة تأملية واعية تسهم في التخفيف من التوتر والقلق. كما أن استكشاف عشرات الآلاف من الطوابع البريدية من أطياف جغرافية وتاريخية وفنية وثقافية واسعة يحفز العقل والإبداع والفضول، ويدفع باتجاه البحث والتعلم والسعي المستمر لكسب المعرفة مما يعزز الشعور بالنمو الشخصي والتطور الفكري.

وشخصيًا، ساعدتني هواية جمع الطوابع على تطوير مهاراتي التنظيمية، حيث تتطلب إدارة وفهرسة مجموعة الطوابع تنظيمًا وتصنيفًا دقيقًا ومبدعًا من أجل الحفظ والعرض. ولربما أهم ما اكتسبته شخصيًا من هذه الهواية هو الاهتمام بالتفاصيل، ففحص الطوابع عن كثب لتحديد الاختلافات والأخطاء والميزات الفريدة يغذي الاهتمام بالتفاصيل ويزيد من حدة العين ذات الرؤية الدقيقة للمراقبة والانتباه لأدق التفاصيل.

وللأسف لم أستثمر هذه الهواية كثيرًا في التفاعل الاجتماعي ضمن أوساطها، حيث يمكن لجمع الطوابع كهواية أن تعزز العلاقات مع الآخرين الذين يشاركونك نفس الاهتمامات، إذ يوفر الانضمام إلى نوادي أو جمعيات هواة جمع الطوابع، أو حضور المعارض أو المشاركة في المنتديات الحقيقية أو الافتراضية فرصًا للتفاعل الاجتماعي والتواصل وتبادل المعرفة.

ومع ذلك فقد ملأت هذه الهواية جعبتي بكثير من القصص المثيرة للاهتمام، التي من خلال رواياتها ومشاركتها مع الآخرين فتحت أمامي كثيرًا من الأبواب وعززت علاقاتي داخل نطاق العمل وخارجه، وزودتني دائمًا بمواضيع مثيرة للحديث فيها وكسر الجليد وبدء حديث لطيف أحيانًا مع أناس في غاية الأهمية في عالم أعمالي، أكتشفت صدفةً أنهم يشاركوني نفس الشغف، فساهمت في جهود التشبيك وبناء العلاقات، وساهمت في إرسال رسالة بأن شخصيتي تخفي وراءها ما هو أبعد وأعمق فقط من مهاراتي ومعارفي وخبراتي المهنية.

اكتشاف الذات هو هدية أخرى تمنحها الهوايات، حيث يمكن أن يؤدي الانغماس في الهوايات إلى إلقاء الضوء على جوانب من شخصيتك ونقاط قوتك التي ربما لم تكن لتتعرف عليها بطريقة أخرى

علاوة على ذلك، فإن السعي وراء الشغف وتنمية الهوايات يعوّد المرء على الصبر ويغذي الشعور بالتفاني والمثابرة. حيث يستغرق إنشاء مجموعة طوابع معتبرة سنوات طويلة وكثير من الصبر، فتعلمت بالممارسة أنه في كثير من الأحيان نحتاج لتأجيل إشباع بعض الرغبات، لأن المتعة الحقيقية والمكافآت لن تأتي إلا بعد كثير من الوقت والتفاني والالتزام. وبشكل عام، سواء كنت تحب العزف على آلة موسيقية، أو زراعة حديقتك الصغيرة والاعتناء بنباتاتك، فإن أية رحلة كهذه ستنطوي على انتكاسات وإنجازات تسهم الاستجابة والتفاعل معها في تعزيز قدرات المرونة والتكيف لدى المرء، وهذه المرونة لا تقدر بثمن في المشهد المهني، حيث تعد القدرة على التكيف والتصميم من الصفات المرغوبة بشدة، فنفس الالتزام الذي يدفعك لإتقان هوايتك يمكن توجيهه إلى تطلعاتك المهنية.

في الختام، فإن اكتشاف الذات هو هدية أخرى تمنحها الهوايات، حيث يمكن أن يؤدي الانغماس في الهوايات إلى إلقاء الضوء على جوانب من شخصيتك ونقاط قوتك التي ربما لم تكن لتتعرف عليها بطريقة أخرى.

عندما تتعمق في اهتماماتك، قد تكتشف المواهب المخفية أو تطور مهارات جديدة أو تبني علاقات مهمة، مما يثري إحساسك بالهوية وتقدير الذات، كما يمكن أن يرشدك هذا الوعي الذاتي إلى اتخاذ خيارات مهنية مستنيرة تتوافق مع قيمك وتطلعاتك.