03-يناير-2018

تمام عزام في مرسمه

لا يجبُّ المرسم مرسمًا قبله بمقدار ما يشي بخسرانه. هذا ما خطر لي خلال زيارة مرسم الفنّان تمّام عزّام في بلدة دلمنهورست الألمانيّة.

احترامًا لذكرى مراسمه المفقودة تباعًا، اختار تمام عزام مكانًا صغيرًا، لا يمتدّ ويتسع، حتى لا يذكّر بسواه

المرسم الذي نمتْ فيه فكرة مشروع تمام الجديدة في العمل على قصاصات الأوراق، مختلفةِ الأنواع، لا يتعدّى كونه غرفةً في بيته الأليف. غرفة يظنّها الزائر خطأ في التصميم، لكونها تبدأ على شكل مستطيل صغير، ليمتدَّ في زاوية منها مستطيل صغير آخر، يُستخدم مخزنًا للأعمال المنجزة والمواد الخام وعدّة العمل.

اقرأ/ي أيضًا: فهد الحلبي.. فنان على الحافة

أُغلِقت نوافذ الغرفة بقطع قماش، وتُركت نافذة واحدة حرّة مفتوحة على مشهد بحيرة لها شكل عين، وعلى حافتها فناجين قهوة وكؤوس متّة.

هو المرسم الخامس في حياة تمام عزّام، بعد مرسمه الأثير في دمشق، ومرسم آخر في دبي، ومرسمين في ألمانيا. ناهيك عن المرسم الإلكتروني الذي يحمله طيَّ كمبيوتره، بوصفه فنّان ديجتال آرت.

ربما هو المرسم الأصغر بين مراسمه السّابقة، إلا أنّه يحمل معاني خاصّة لكون حصنًا في المكان الجديد، وهو أقرب إلى الورشة منه إلى المرسم فعليًّا، فأقلّ ما فيه هو الرياش والألوان، وأكثر ما فيه هو المشارط والمقصّات والصِّماغ.

تمام عزام

أُوكلت إلى النافذة الحرّة الوحيدة مهمّة واضحة؛ تقنين الضّوء في المكان. لا يريد تمام للضّوء التهام المكان، لذا روّضه بطريقة تجعله عنصرًا فنيًّا لا صاحب سيادة مطلقة، ينهى ويأمر كما يحلو له، فللإظلام حقُّ محفوظٌ يدرك أنه لا يجب أن يجور عليه.

نحكي عن مراسمه الأخرى التي تهاوت مع الوقت، وأصبحت أطلالًا دارسةً لا تُزار بغير التذكّر، واحترامًا لذكرى مراسمه المفقودة تباعًا قال لي إنه اختار مكانًا صغيرًا، لا يمتدّ ويتسع، حتى لا يذكّر بسواه، بل يتضاءل بما يكفي للانفتاح على الذاكرة والخيال.

يقصقص أوراقًا ويلصقها على القماش، ثم يلملم قصاصات القصاصات بالمكنسة عن الأرضية ليلصقها من جديد. المكنسة شريكٌ سريّ. من الشظايا، وشظايا الشظايا، يواصل صنع المشهد كما تصنعه الحياة نفسها من ذرّات تتراكم في طبقات، إلى أن تجعله ناجزًا في حدقة العين.

تتصل أعمال الورق الأخيرة بمشروع سابق أسماه "طوابق"، قام فيه برسم منازل تبدو مهدّمة، ما يجعلها لحظةً المشاهدة الأولى تبدو متصلة بالهدم الذي نال البنيان السوري خلال قصف الطائرات، إلا أنّ الأمر ليس كذلك تمامًا، فتلك البيوت المستلّة من فضاء عشوائيّات دمشق تحمل الهدم في داخلها، لشدّة ما فيها من البؤس، قال: "بيوتنا مهدّمة رغم وقوفها ملوّنة".

في المرسم الجديد، يستكمل تمام عزام سيرة تلك البيوت، لكنّه يفسح المجال للتقنية بحيث تصبح مفتاح العمل، وقفله أيضًا، ففي بعض هذه الأعمال قام بتمزيق الأوراق التي أخذت شكل بيوت فوق القماش، ثم لصق ورقًا شكّل بيوتًا جديدة، ثم مزّقها. التمزيق، أو الهدم المتصاعد، هو من يوصل المشهد إلى شكله النهائي، في قَلْبٍ لمعنى العمل الفنيّ الذي يبنى تباعًا، ليكون عملًا يهدم بشكل متواصل.

قلتُ له أرى موتًا. إذا كانت الحياة في سيرتها تبني رويدًا رويدًا، ليأتي الموت على كلّ شيء في النهاية، فإنّك تجعل من الموت مبتدأً ومنتهى. يدكَ يدُ الموت يا صاحبي!

هزّ رأسه بطريقةٍ غير مفهومة دون تعليق. مضى كعادته إلى صمته الغامض الذي أصبحتُ أعرف أنه لا يقال إلا على شكل صور.

الأعمال التي قام تمام عزام بتعليقها في أرجاء البيت كي تتسنى له معاينتها طوال الوقت، تقترح طرق مشاهدتها، فبنوعٍ معيّن من التحكم في الإضاءة ترى شيئًا لم تره في الإضاءة الكاملة، وبمستوى معيّن من إغلاق العين سترى ما لا تراه بالعين المفتوحة على اتساعها.

من بعيدٍ، تبدو اللوحة مرسومة بالرياش والألوان، ومن مسافة أقلّ تبدأ قصاصات الورق بإبراز نفسها.

مشاهد قادرة على الحركة رغم جمود المشهد. أهو ضربٌ من السِّحر؟ لا، ذلك هو الاشتغال الدقيق على احتمالات المشاهدة، وإتاحة فرصٍ واسعة للعين لتدخل ممّا تراه إلى ما لا تراه.

يحدث ذلك بالصبر والأناة. وباختبار كل جزء ينجزه بالتقاط صور فوتوغرافية، تسمح له بالدخول إلى أدقّ التفاصيل، إلى مسامات اللوحة، ولعله استفاد في ذلك من عمله المديد في الفنّ الرقميّ، الأمر الذي جعل عينه كثيرًا ما تفكّر بطريقة شاشة الكمبيوتر!

الشكل الذي ينبني في هذه الورشة هو الغاية، والمقولة، والمعنى. الشكل هنا مضمون بحدّ ذاته، والمضمون شكلٌ، في كسرٍ لتناوب الأدوار بينهما حتى يقوما بدور واحد، وليكون لنا، بسبب هذه التجربة، أن نتحدّث عن مضمون الشكل، وشكل المضمون.

تمام عزام

تسبح الأخيلة في الغرفة الصغيرة العابقة بروائح الورق. تنهال على المرء خيالاتٌ لذيذة. ماذا لو كانت الكتابة تعمل على مبدأ الأشغال اليدوية؟ ألن تمتلئ غرفنا بالكلمات والحروف وعلامات الترقيم؟ ألن تصبح الأفكار والهواجس متراكمةً كالغبار على الأرضية؟ هل ستنزلق قدم أحدنا بحرف الراء؟ أو يتعثر آخر بهمزة حرف الكاف؟

لو أنّ الكتابة تعمل هكذا، سنجد تحت الكلام كلامًا آخر، وفوق أشلاء اللغة أشلاء أفكار، بعضها سليم وبعضها الآخر معاق.

يتهيّأ لي أنني أمسك بأصابعي جملة كاملة. أقلبها على مختلف الجهات، لأحصل منها على ما لا أحصل عليه وهي مكتوبة على الورق، قابلة للحذف أو الإضافة، بما يمحو آثار عملية التحرير.

ربما بسبب هذا، أعمال تمام عزام هي تشكيل العمل وسيرته معًا. لديك المشهد المبتغى، ولديك سيرة صناعته وصياغته، ومسيرة تصحيحه وتنقيحه.

التقينا، تمام وأنا، في وقتٍ كنا مقبلَيْن فيه على البداية، كان يعدّ لمعرضه الأوّل، وكنت أعدّ لنشر كتابي الأوّل. صمّم لي غلاف الكتاب، وكتبتُ عن معرضه المقال الأول. كل ذلك "الأوّل" سيضيع مع الوقت، فلم نعد نلتقي إلا لمامًا، إلى أن رمتنا مصائرنا السورية كلًا في قارة، لنعود ونلتقي في صدفة سريالية في أحد قطارات المنفى. قطارٌ ذاهب إلى مكان لا يزوره أحد، لكنّه في اللقاء جعلني أشعر أنه عاد إلى ذلك المكان الذي يمكن أن نسميه "الأول". الأول الذي شاركنا فيه بإطلاق مهرجان ثقافي محلي في مخيم خان الشيح، وصمّم لنا الملصق عيدانَ ثقاب في أوّل اشتعالها، وهي استعارة سرعان ما ستنقلب لما سيكون عليه المخيم فعلًا.

أعمال تمام عزام هي تشكيل العمل وسيرته معًا. لديك المشهد المبتغى، ولديك سيرة صناعته وصياغت

في ذلك المهرجان، خرج الكتاب بعنوان "دم أبيض"، وتصميم تمام لطخات بيضاء. العنوان والتصميم جعلا أحد شيوخ مساجد المخيم يلقي خطبة تكفيرية، معتبرًا أن الكتاب يتحدّث عن السائل المنوي، كما فهمه من العنوان والتصميم.

اقرأ/ي أيضًا: منذر جوابرة.. عودة إلى دفتر الانتفاضة

لم أحك تلك القصة لتمام، لكن بما أننا نعود إلى أوّلنا فقد حان وقتها.

في الغرفة الصغيرة، سألته: "ما المرسم؟ أهو بيت الفنان؟ أم رحم العمل الفنيّ؟"، وكمن أدرك هواجسي الداخلية قال: "هو الكهف، لكنّه كهفٌ معاصر، كهفٌ قابل للتّرويض".

 

اقرأ/ي أيضًا:

3 تجارب سورية في الفن الرقمي

رامبرانت.. يوميات المرح والاضطهاد