27-مارس-2018

نويل إسد/ هنغاريا

متحف الفظاعة

في يوم صيفي رهيب، كنتُ أمشي تائها بين غياهب الأرض المحترقة بأوجاعها. لا مجال للدروب المنعشة، فالخشب صار رمادًا، اختلسته الرياح العاتية. تساءلت لماذا لم تكف هذه الأرض العريقة عن نفخ لهيب الفتن وألم المحن المشفرة وغير المشفرة؟ تابعتُ السير بأحذية ثقيلة جدًا مصنوعة من جلود الخفافيش، عقابًا لي على محاولة مساءلة الرفات لِمَ طُمست. أي هذيان هذا؟

لما وصلت إلى زاوية الطريق، امتلأ نظري المنهك بباب ضخم لبناية ذات طابقين، هندستها توحي بأنها متحف حديث النشأة. نقرت الباب الخشبي سبع مرات بواسطة الخلخال الحديدي. صمت جنائزي داخل الصرح الغريب.

بعد برهة فُتح لي الباب على مصراعيه، مصدرًا صوتًا اقشعر له بدني. من دهليز عالٍ وشبه مظلم خرجت موجات من الروائح النتنة، اغتصبت فتحتي أنفي الأفريقي. ولكن لا أحد كان وراء الباب. آلي؟ بينما على بعد مترين من الباب، رأيت جمجمتين بشريتين ودتا الترحيب بشخصي على ما يبدو. تقدمت ببطء وإذا بنسيج العناكب يلثم وجهي ويثبط جسدي، وبصعوبة بالغة تمكنت من تمزيقها بأنامل يديّ.

أخذت من جيبي ولاعة وأشعلت شمعدانين موضوعين فوق طاولة في آخر الدهليز، مضيئًا القاعة الدائرية والضخمة ذات السقف العالي جدًا. في داخلها أتممتُ إشعال كل الشموع الكبيرة.

ذهلت لِمَا رأيت فعلًا. قوارير زجاجية تنبعث منها رائحة الكلوروفوم المملوءة إلى النصف. مروّع ما احتوت عليه تلك الأواني الشفافة: رؤوس بشرية بكل الأحجام والألوان والفظاعة، أيدٍ بلا أصابع وأرجلٍ منفصلة عن بعضها البعض، أثداء مقطعة طوليًا، ألسنة مسمرة، قلوب مكوية، أعين مفقوءة، آذان تخترقها إبر طويلة "كالبروشيت"، وأجنة أمهات منشطرة كالرمان.

ولا أفظع..

لمن بقايا هذه المجازر؟ ارتبك جسمي وازداد خفقان قلبي الحساس. شدت انتباهي خريطة فوق طاولة حديدية صدئة تتوسط القاعة. اقتربت منها على خطى الدم والدمع، فإذا بخريطة بلاد العرب تتربع على كامل مساحة الطاولة. ولكنها ليست خريطة عادية، بل مؤلمة إلى حد بعيد عندما لمحت إلى مفتاحها. بإبهامي الأيمن مشطتُ كل بؤر المذابح والأسى والاغتصاب والمقابر الجديدة، مستذكرًا الثكالى واليتامى والمعذبين نفسيًا.

أين الغراب ليواري لنا سوءات حماقات البزة وعنفوان الرّزة؟ في مكان خفي، نقر الهدهد تقريره اليومي.

تركت خريطة العار وصعدت إلى الطابق الأول عبر سلالم خشبية تحمل بقع من الدم الجاف. أشعلت الشموع ثانية لأكتشف ورشة تأوي ترسانة المجازر الملطخة كلها بالدماء: سيوف بكل أطوالها، وشواقير، ومطارق، ومسامر، وأسلاك حديدية، وكريات فولاذية، وفؤوس، ومعاول، وبنادق، ورشاشات، ومقادير المتفجرات.. ومنابر الفتنة!

فلتةً، أحسست بحضور خفي ورائي، وعند دوران كاحلي اصطدمتُ بهيكل عظمي يسيل دمًا، ومشهرًا ساطورًا عملاقًا، صرختُ بكل قوة..

- أخيرًا استيقظ ولدنا. الحمد لله.

جَمْعٌ من الناس كانوا حول سريري. فقلتُ:

-ماذا حصل؟ أين أنا؟

فسمعتهم يتمتمون:

- من قال بأنه سيعيش بعدما اخترقت رصاصة إرهابية رأسه. انتهى كابوس الغيبوبة الذي دام مائة يوم!

 

خريطة الأحاسيس

وَهَن العش الافتراضي. أمام مرآة شاذة، كنتِ تعقصين شعرك القطبي في غرفة تطل على مرفأ الوحدة، تحلمين بحبيب لن يرسوَ هناك لأن  قلبه أهداه لظلمات البحر. لن يأتي حتمًا حيث برودتك السالفة تجاه أغرقت بقايا غرامه. التمس قلبُه اللجوء إلى جزيرة "الأطلنتيس"، الخالية من المشط المتكبر.. زُبير.

كانت زُمردة جالسة فوق أرجوحة منزلها في ضواحي باريس. غازلت الرياح الخفيفة شعرها الأسود الطويل كنهر السِّين. ما زالت الرسالة القصيرة في هاتفها الخلوي تؤنب ضميرها. شعرتْ بالندم على خيانة حبيبها، القابع في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، يتناسى الآلام العميقة عُمق "خندق ماريانا" في المحيط الهادي. قالت له أنها ستعود قريبًا من فرنسا بعد انتهاء دراستها الجامعية. ولكن طال الغياب و قَصُرَ حبل الوفاء. بدّلت زُمردة جلنار الرمّان بكافيار روسيا. بكل بساطة طوت صفحة ساخنة لاستبدالها بأخرى باردة.

قبل خمس سنوات بَكت زُمردة ظاهريًا عند فراق زُبير في بهو مطار الجزائر. وعدته بالمجيء في الصيف الموالي لرؤيته وامتصاص ارتطام الشوق والحنين إلى الحبيب الصابر. الصبّار. الحقيقة التي كان يجهلها زُبير، كانت في انتظارها بمطار باريس، كما اتّفقا سابقًا عبر الشبكة العنكبوتية، رجل من بلاد بوتين، يعمل نادلًا في حانة باريسية. اسمه ديمتري بولاكوف. وعدها على فراش عابر بالزواج وبسوار "الكرملين"! أفقدها عذريتها ورَماها لَحمة منتهية الصلاحية، واختفى عن الأنظار. منذ تلك اللحظة فقدت زُمردة تذكرة العودة إلى بلاد اشتراط عذرية الأنثى، لا عذرية الذكور! نفدت نقودها بعد ثلاثة أسابيع من وصولها إلى باريس. لم يبق لديها حتى ثمن المأوى والطعام، فاضطرت إلى العمل في ملهى ليلي، تصطاد باحثي المتعة الزائفة بجسدها الفاتن جدًا. كانت الصفقة تتم عادة في نزل قريب من مكان الطُعم الجسدي! مرَّت الأيام والشهور والسنون، فوجدت زُمردة ضالّتها في الظلال الدائم! قامت بِاكتراء شقة في الضاحية الباريسية "سانت وان"، لعصرنة بيع الهوى على "الوَابْ"! رقمنة الدعارة! كل ثلاثة أشهر كانت ترسل مبلغًا ماليًا "محترمًا" لإعانة أمها الأرملة وأختيها الصغيرتين! "الحياة لا ترحم اليتامى، وأشواك الرصيف البعيدة تطعن القلوب وتُشوّه خريطة الأحاسيس"، دوَّن الهدهد تقريره الأسبوعي لـ "واس".

طمر زبير الأمل في ملاقاة زُمردة الغائبة عن الوطن، فقرر بعد خمس سنوات عِجاف الزواج من امرأة أخرى من قريته الفقيرة. برمج حفل الزفاف في أواخر شهر آب، على بُعد أسبوعين. دعا زُبير الأقارب والأصدقاء للعرس. استعدادات على قدم وساق ليوم الفرح المتأخر. قبل يومين من ميعاد القران، أطلت سيارة حمراء فاخرة إلى القرية، تحت أنظار القرويين المبهورين من جاذبية المركبة. كان زُبير من بين الحضور. الكل ظن ّأنها سيارة موكب العرس.

فُتح الباب ونزلت امرأة في كامل زينتها، مرتدية نظارات شمسية، وقميصًا ورديًا، وتنورة حمراء قصيرة جدًا، ومنتعلة حذاءين عاليين. بدأ الناس يتهامسون أنها زُمردة المغتربة، ابنة زَيْنَة الأرملة. أبهرت أناقتها الطفل المحتلم والشيخ الطاعن في البروستاتا! لم يصدق زُبير عينيه. تاهت أحاسيسه في فوضى داخلية محتدمة. عادت حبيبته بعد فوران الفول! أمام الملأ المشدوه، وقف زُبير على ركبتيه وصرخ ببطلان زواجه وتوسل القبيلة أن يزوجوه زُمردة، و أن يُكتتب عقده على  مُؤخرة نَايْزَك.

بعد أيام، وفي ليلة الدخلة الموعودة، جثمَ زُبيرعاجزًا جنسيًا أمام زُمردة. كما لم تتوان عن مصارحته بفقدان عذريتها وعفافها في بلاد الجنّ و ...

الجنّ..

والجِّن!

 

اقرأ/ي أيضًا:

نائم بعينين مفتوحتين ويحلم

حكاية الرجل ذي الوجه التعيس الذي يقول أشياء جميلة وحزينة