ضربت الأرجنتين موعداً في المباراة النهائيّة للنسخة الحادية عشر من كأس العالم مع هولندا، وسبق أن تخطّى فريق الطواحين دور المجموعات الثاني بنجاح وتصدّر المجموعة التي ضمّت إيطاليا وألمانيا الغربية والنمسا، ليصل إلى النهائي للمرة الثانية على التوالي، ولسوء حظّهم سيواجهون أصحاب الأرض كما حصل في النسخة السابقة 1974. فيما عانت الأرجنتين قبل أن تصل للنهائي بعد أن تصدّرت مجموعتها في الدور الثاني والتي جمعتها مع البرازيل والبيرو وبولندا، وحينها عمّت الشُبهات هذا التأهل بعد مباراة البيرو الشهيرة. وقبل المباراة النهائية التقت البرازيل مع إيطاليا من أجل تحديد أصحاب المركزين الثالث والرابع، ففاز الفريق اللاتيني 2-1 وحاز على المركز الثالث وخرج مرفوع الرأس من البطولة دون أن يتكبّد أيّة خسارة.

القائد باساريلا يرفع الكأس

لم تتمكّن الأرجنتين مع مدرّبها سيزار مينوتي أن تفوز في 4 مباريات استعدادية للمونديال، ما حدا بجماهير ملعب البومبونيرا الخاص بنادي بوكا جونيورز أن ترفع صيحات الاستهجان مطالبة بإقالة المدرّب الذي ينحدر من النادي العدو ريفير بليت، وتعيين مدرب بوكا جونيورز آنذاك خوان كارلوس لورينزو. ولكن الاتحاد الأرجنتيني جدد الثقة بمينيوتي وقرر إقامة مباريات الأرجنتين في المونديال بملعب المونيمينتال الخاص بريفير بليت بدلاً من البومبونيرا، وهنا قرر المدرّب استبعاد لاعبي بوكا جونيورز من التشكيلة قبل أيام قليلة من انطلاق كأس العالم، وكان أبرزهم اللاعب الشاب دييغو مارادونا الذي بكى تحت شجرة عندما علم بالخبر. فكانت تشكيلة الأرجنتين جلّها من فريق ريفير بليت إضافة إلى تارانتيني الذي لم يلعب آنذاك في أي فريق منذ 6 أشهر بسبب مشاكل مع إدارة بوكا جونيورز، وهو اللاعب الوحيد في تاريخ كأس العالم الذي لعب في البطولة دون أن يكون منتمياً لأي نادٍ، وضمّت التشكيلة أيضاً بعض المحترفين من الخارج وأبرزهم هداف الدوري الإسباني لاعب فالنسيا ماريو كيمبس.

استبعد مدرب الأرجنتين مارادونا من التشكيلة قبل أيام من بدء البطولة، عندها بكى مارادونا تحت شجرة

في الخامس والعشرين من حزيران احتشد أكثر من 71 ألف متفرّج  يتقدّمهم الجنرال خورخي فيديلا من أجل مناصرة الفريق الأرجنتيني في ملعب المونيمينتال، ومع بداية المباراة النهائية اخترق فريق الطواحين دفاعات الأرجنتين وكاد أن ينجح في التسجيل مبكّراً عدّة مرّات لولا تألّق الحارس أوبالدو فيلول وتصدّيه لثلاثة أهداف محققة، وبعد ذلك استطاع أصحاب الأرض أن يستفيقوا من الصدمة رويداً رويداً فهددوا الخصم بعدّة كرات إلى أن أتى الهدف الأول عبر ماريو كيمبس في الدقيقة 38.

ومع بداية الشوط الثاني انحسر اللعب في وسط الميدان، وحاولت الأرجنتين جاهدة الحفاظ على تفوّقها، فبدأت الجماهير بالاحتفال باللقب قبل أن تأتي رصاصة التعادل في الدقيقة 82 عندما سجّل نانينغا هدف هولندا الثمين بعدما تجاوز حارس المرمى. وقبل أن يستفيق الأرجنتينيون من الصدمة سدد الهولندي رينسينبرينك كرة صاروخية خدم الحظ بها أصحاب الأرض عندما ارتطمت بالقائم وشتت مدافع الأرجنتين الكرة بعيداً. عندها أعلن الحكم نهاية المباراة واللجوء لوقتين إضافيين.  يقول كيمبس " أطبق صمت رهيب على ملعب المونيمينتال بأكمله، بدا وكأنه مبنى تم إفراغه في ثوانٍ بعد إنذار الحريق، كان بالإمكان سماع قطرة الماء وهي تنزل، وعندما شتّت المدافع الكرة بدت قوّة الضجيج أشبه بالانفجار المفاجئ وكأننا سجّلنا هدفاً".

كادت هولندا أن تحقق البطولة ولكن العارضة خدمت أصحاب الأرض في آخر لحظات الوقت الأصلي من المباراة

دخلت الأرجنتين الأشواط الإضافية بروح عالية، وبدا على لاعبي الطواحين الإرهاق الشديد بعكس أصحاب الأرض الذين واصلوا هجماتهم الخطرة التي أتى من إحداها الهدف الثاني بتوقيع كيمبس في الدقيقة 105، ومع محاولات الهولنديين تعديل النتيجة بانت الثغرات الدفاعية التي استغلّها دانييل بيرتوني محرزاً هدف فريقه الثالث في الدقيقة 116، ليعلن حكم اللقاء نهاية المباراة النهائية 3-1 لصالح الأرجنتين التي توّجت باللقب لأول مرّة في تاريخها، بينما انتهى جيل ذهبي للكرة الهولندية بثاني وصافة مونديالية على التوالي.

الصورة التي اشتهرت باسم معانقة الروح وحازت على عدة جوائز

كانت الجماهير الأرجنتينية بحاجة لهذا الانتصار الذي وضع البسمة على وجوهها بعد سنوات من الدموع والقهر إثر ظروف البلاد وحالة القمع السائدة. وعندما عانق اللاعب ألبيرتو تارانتيني زميله الحارس أوبالدو فيلول تسرّب من الجماهير شابٌ مبتور الذراعين وحاول أن يعانقهما في مشهد عاطفي جدّاً، وما لبث أن انضم للّاعبين المتعانقين وعانقهما بصدره. يقول تارانتيني "عندما عانقنا هذا الشاب بهذه الطريقة شعرنا أن الشعب الأرجنتيني بأسره يعانقنا". تم تصوير هذه اللقطة الشهيرة وحازت على العديد من الجوائز الصحفية، وسمّيت باسم "معانقة الروح"، بعد ذلك بـ36 عاماً وتحديداً عام 2014 أعدّت شركة كوكا كولا مفاجأة لصاحب الذراعين المبتورتين واسمه ديل أكويلا، فنظّمت زيارة مفاجئة لتارانتيني وفيلول إلى ديل أكويلا وهما يحملان الكأس إليه.

كان هدف الجنرال فيديلا من تأسيس كأس العالم تحسين صورة نظامه القمعي الاستبدادي، و ظنّ أن حيازة بلاده للكأس سيعزّز مكانة بلاده السياسية في العالم، لكن السحر انقلب على الساحر، إذ تعرّفت الصحافة العالمية على مشكلة الأرجنتين وما يعانيه شعبها وبدأت بنشر الكثير من المقالات التي فضحت للعالم ما ارتكبه فيديلا من قمع وتعذيب وقتل بحقّ أبناء شعبه، ورضخ الأخير للضغوط الدولية أخيراً وأجرى إصلاحات في البلاد تنازل بها عن الحكم لاحقاً لصالح حكومة اختارها الشعب.

كما كانت كأس العالم سبباً في تهجير آلاف المعارضين وسجن الكثير من الصحفيين الذين يخشى فيديلا أن يفضحوا حال بلادهم أمام الضيوف الجدد، أنقذت هذه البطولة الشعب الأرجنتيني وساعدته بشكل غير مباشر على نيل الحرية. وبعد البطولة بثلاثين عاماً خاض نجوم الأرجنتين في مونديال 1978 مباراة ودّية تكريماً لضحايا الديكتاتور الذين قضى بعضهم وهم يحتفلون بإحرازهم الكأس الغالية، كذلك شهدت النسخة الحادية عشر العديد من المفارقات التاريخية والأحداث الرياضية الهامة، فماذا عنها؟

تابعونا في الجزء القادم من قصّة كأس العالم 1978..