21-سبتمبر-2023
سمر كوكش في الظل

(يوتيوب) سمر كوكش في بودكاست في الظل

يبدو أن تجاربنا الشخصية، نحن السوريين، لم تعد ملكًا لنا وحدنا، فما يفعله كل واحد منا أنه يعيد إنتاج حكاية الوطن من منظور تجربته الخاصة، ولم يعد غريبًا بالنسبة لنا أن حكايانا تتشكل من العناصر ذاتها: الخوف، القهر، الظلم المر، الطرافة التي تولد الأمل بأن ثمة معجزة ما يمكنها أن تقلب الوقائع، يمكنها بث الحياة في الأجزاء الميتة في السلطة، وتجبرها على النظر إلينا كمواطنين، أو على الأقل كبشر.

حكاية سمر تعيد رسم وجوهنا الملهوفة، الساذجة، الحالمة، تعيد ترتيب أحداثنا الشخصية التي صنعت الحدث السوري، وتُظهر لنا كم كنا نعيش وهمًا كبيرًا ونحن نحاول إسباغ أخلاق الفرسان على عدونا، وتؤكد لنا كم كان تعريفنا رخوًا وسرياليًا للعداوة مع السلطة، حينما ظننا أننا في خصومة سياسية محكومة بالشرف والوطنية مع النظام السياسي.

تحدثت سمر عن براءتنا وطيشنا ونحن نقارع أعتى الأنظمة الشمولية وحشية، ورغم أن ما قالته يُعد ذكريات نابعة من تجربة شخصية، لكنها في الوقت نفسه تظهر لنا كذاكرة مأساوية جمعية، يغيب فيها الذاتي ويحضر الجمعي.

ذكرتنا سمر كوكش بأجواء الاستقطاب المشحون بالتخوين والإعجاب، واستعدنا طعم الكره النقي والمحبة الخالصة، وكأن هذه الحلقة هي استعادة للجلسات السرية، التي كانت تحدث في البيوت والمقاهي العشوائية

ظهرت سمر كوكش، ابنة المخرج علاء الدين كوكش والممثلة الراحلة ملك سكر، في لقاء مع الصديقة هزار الحرك في بودكاست "في الظل"، وعلى مدى 80 دقيقة، تنقلت سمر بين محطات حياتها منذ اندلاع الثورة حتى محطة استقرارها الأخير في أوروبا.

وبحكم الصداقة والذاكرة المهنية المشتركة بين الضيفة والمضيفة، غلب على اللقاء طابع حميمي خاص، جعله ينفد بسلاسة إلى ذاكرتنا الشخصية، ويحيل الشخصي إلى عام والعام إلى شخصي، استعدنا معها إحساس التسكع في طرقات المعضمية، خلال الثورة السورية، والخوف الذي كان ذو طعم ورائحة قبل المظاهرة وبعدها. وحملت نبرة صوتها المتمكنة إلينا مهابة غيوم دمشق الداكنة في آذار على امتداد أوتستراد المزة، وصولًا إلى المنطقة الحرة، حيث كنا نعمل في إستديوهات الدوبلاج التابعة لمركز الزهرة "سبيس تون".

أيقظت فينا تلك الشخصيات التي تدربنا جيدًا على نسيانها على مدى ثلاثة عشر عامًا، والتي حكمنا عليها بقسوة، ولمناها على ضياع الوطن، وأرهقناها شعورًا بالندم والتسرع، ومنحتنا الفرصة لكي نخفف عنها، ونحتضنها مرة أخرى، ونسامحها على اندفاعها الطائش وحساباتها الطفولية، وعلى تجاهلها للموت المتربص وتقليصه إلى حدود مساحة شعار أو هتاف شخصياتنا الهشة أمنيًا مقابل القبضة الأمنية التي لا ترحم.

وبقدر ما كان اللقاء شفافًا ولطيفًا ويعكس سمات العائلة السورية التي كدنا ننساها في مهاجرنا، من خلال وقفات من الخجل والتحفظ، وانتقاء العبارات والطيبة، كان أيضًا بابًا ينفتح على مناخ القبح الذي كان يحكم سوريا، ولا يزال يدوس شابات سوريا وشبانها، ويسلبنا حتى مساحة الحداد عليهم.

شرعت سمر هذا الباب، وأقبلت منه شخوص وأحداث البدايات، عندما بدأنا بالتعرف على أنفسنا وأصدقائنا من جديد، وبدأنا نكتشف أن لنا صوتًا، ولنا قوةً، ولنا أغنيات كنا ندخرها سرًا، وجاء وقتها لتصدح في الساحات والشوارع.

ذكرتنا سمر بأجواء الاستقطاب المشحون بالتخوين والإعجاب، واستعدنا طعم الكره النقي والمحبة الخالصة، وكأن هذه الحلقة هي استعادة للجلسات السرية التي كانت تحدث في البيوت والمقاهي العشوائية، والمطاعم الفاخرة للتمويه، فذلك الاستقطاب اتخذ شكلًا طبقيًا بسرعة، بحيث لا يعقل أن يجتمع الثوار، في أماكن باذخة، فهي ثورة الأرياف لا ثورة المدن، وثوار الجوامع لا يمكن أن يظهروا في أماكن السهر المحتكرة لجمهور الدولة.

في تلك اللحظة الحاسمة من عمر النظام، تداعت شبكة العلاقات السرية والحذرة التي كانت تجمع الفنانين بأجهزة الدولة، ونال ذلك الاستقطاب من كل  الجهد المتراكم عبر سنوات، وظهر كثر من الفنانين، لا كأصحاب رأي وموقف مما يحدث، بل ظهروا كموظفي دولة، ولم يكن من مجال لتجميل هذه العلاقة، بل ظهرت بكل قبحها وفجاجتها للعلن، وأسقطت أقنعة كثيرة عن وجوه من كانوا محسوبين على سردية الشعب، وكانت هذه العلاقة هي أولى مظاهر الاستقطاب وأهم أدواته، وسرعان ما انهارت الحصون التي كانت تفصل العامة عن حفل السلطة وفنانيها، منذ ما عرف وقتها  ببيان الحليب، حتى مرحلة الاستدعاءات للفنانين ليظهروا على التلفزيون الرسمي ويعلنوا أنفسهم بأنهم من فريق الدولة.

ولم تمض أيام قليلة فقط على ضرب الحصار على مدينة درعا، تنادى بعض الفنانين لإصدار بيان، لا يطالب بفك الحصار، بل فقط بإدخال الحليب الأطفال إلى المحاصرين هناك، وكان من بين الموقعين على البيان الفنانة منى واصف.

قصة سمر هي قصتنا جميعًا، لأنها قصة فدوى سليمان، وقصة مي سكاف. قصتنا جميعًا لأنها قصة السوريين الثائرين التي تبدأ بالحلم، ثم الملاحقة، ثم المنفى

وقتذاك وقف محسن غازي في كافيتريا النقابة، التي كان يشغل منصبًا إداريًا فيها، وراح يشتم منى واصف بأقذع الألفاظ ويتوعدها.

والمفارقة أن ذلك لم يكن صادمًا، بل كان يشير إلى مدى عمق العلاقة بين الفنانين والنظام السياسي.

سمر التي كانت تعمل ممثلة دبلجة في مركز الزهرة، لم تكن داخل حسابات النظام السوري، سوى فيما يتعلق بسمعة والدها المخرج، وقيمة والدتها الممثلة ملك سكر في الذاكرة الجمعية السورية؛ تروي في المقابلة بأنها لم تكن تتوقع أن يتم اعتقالها، فقط لأنها تنشط في المجال الإنساني، وتحاول تأمين بعض المؤن والأدوية واللوازم الطبية لسكان بعض المناطق المحاصرة، وعزت ذلك إلى أنها لم تكن تشعر بأنها ترتكب إثمًا.

ربما لم تعرف سمر، أو أنها مثلنا، كانت تعيش حالة من الإنكار الشديد، نرى ونغيب ونعتقد أن تلك الوحشية سوف تُخطئنا، وإن لم تُخطئنا، سوف يعرف أمنه أننا لسنا أكثر من حالمين، نحلم بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية، وباقتسام جزء من الشأن الاجتماعي معه.

بل أكثر من ذلك، ظننا بأن فسح المجال أمام تمكين المجتمع المدني، سوف يحمل عبئًا عن النظام، ويخرجه من إطار دولة الرعاية.

كنا طيبين جدًا ونحن نردد هذا الكلام، ونظن أننا حقًا أمام دولة يديرها نظام سياسي، أو على الأقل، هذا ما كنا نتمنى حدوثه ونحن نقارعه سلميًا، حتى اكتشفنا أنّ تمدد مظاهر المجتمع المدني أكثر تهديدًا على وجوده وحضوره، من المظاهر المسلحة، كان كل شيء جليًا أمام عيوننا، لكنا كنا ننكره، لكن في اللحظة التي توضع فيها العصبة "الطمّاشة" على عيوننا كنا نبصر الحقيقة، وندرك، على الفور، طبيعة ما نواجه.

روت سمر بمرارة، تفاصيل اعتقالها في الفرع 215 ولحظات التفتيش المهينة، المنتهكة لحرمة الجسد. روت مشاهداتها للمعذبين، واستيقظت مخاوفها، أمام احتمالات التغييب القسري، والموت تحت التعذيب.  هذا الفرع الاستخباري الذي ذاع صيته بسبب أعداد القتلى تحت التعذيب التي يخرجها كل يوم، خلال جلسات التحقيق، ومع أنها كانت تعتبر نفسها محظوظة ومحصنة بعض الشيء لأنها فنانة ابنة فنانين، لكن كان هناك فنانون آخرون، أقل حظًا منها، ولا يمتلكون تلك الحصانة التي كانت تحميها بعض الشيء. ومثلما أشارت في حديثها، أن هذا النظام لا يوزع الموت بالتساوي بين السوريين، وليس عادلًا حتى في قسوته ووحشيته. قتل أولئك الفنانين وغُيبوا. تذكرت زكي كورديللو وابنه مهيار. بيته المتواضع في دمر البلد، وقلبه وقلب عائلته الكبيرين، إيمانه الكبير بالثورة، وحرصه الزائد، على حماية نفسه وإبعاد الشبهات عنه.

كنا نتواصل في مركز الزهرة بالابتسام لبعض فقط، كان سرنا المشترك مثل ضوء ينعكس على وجوهنا وعيوننا، ولم يفلح زكي ربما بإخفائه، فوقع في أيديهم، هو وبكره.

قصة سمر هي قصتنا جميعًا، لأنها قصة فدوى سليمان أيضًا، التي بكت في أحضان الدُّومَانيات، عندما ذهبنا سرًا لعزاء أسر شهداء المظاهرات السلمية. بكت وغنت، وانتهى بها الأمر لاجئة في فرنسا، تقاوم لامعقولية النفي، وتستحضر سوريا في شوارع وساحات باريس. هي قصة مي سكاف التي اختارت اللجوء بدلًا من الاعتقال، فقلتها المنفى، قتلتها البطالة، والعجز عن الفعل. سمر وهذه الطائفة من الفنانين الذين انضموا إلى مشروع الوطن لاستعادة السلطة، في مواجهة من حطموا الوطن، للبقاء فيها؛ قصة سمر هي قصتنا جميعًا لأنها قصة السوريين الثائرين التي تبدأ بالحلم، ثم الملاحقة، ثم المنفى. بعضنا نجا وبلغ المنفى، والبعض مات وهو يحلم، وآخرون وقعوا في حفرة أمجد يوسف، جزار التضامن، التي هي مثال صغير عن الحفرة الكبيرة التي اسمها سوريا الأسد.