05-يناير-2023
حي عشوائي على جبل قاسيون

من يقرأ تاريخ مدينة دمشق يعثر على كم واسع من المواد الممتعة حول المساجد والكنائس والمدارس والقصور والأسواق والأضرحة، مقابل مواد قليلة عن مجتمع المدينة، سواء من سكنوا المدينة القديمة داخل السور، أو من وفدوا إليها في فترات لاحقة وشكّلوا أحياء جديدة.

في هذه الكتابات، لدينا مساجد لا نعرف شيئًا عن المصلين فيها، وأسواق لا نعرف صورة مقرّبة عن زبائنها، ربما ندرك من البضاعة أنهم بدو وفلاحون في أحد الأسواق، أو نساء في آخر، لكننا لا نجد ما يساعدنا على تشكيل صورة إنسانية.

تعاملت الكتب التاريخ مع دمشق الموجودة، أو الحاضرة، ولم تجرِ تنقيبات حول دمشق الغائبة. فلا نعرف شيئًا عن قصور بني أمية في مدينة دمشق، لا مواقعها ولا أوصافها

إذا كانت مدينة بشهرة دمشق فيها هذا النقص الفادح، فما الذي يمكن قوله عن المدن الأصغر والأحدث تاريخيًّا؟

تعاملت هذه الكتب مع دمشق الموجودة، أو الحاضرة، ولم تجرِ تنقيبات حول دمشق الغائبة. فمثلًا، يشير المؤرخ صلاح الدين المنجد إلى أننا لا نعرف شيئًا عن قصور بني أمية في مدينة دمشق، لا مواقعها ولا أوصافها، إلا ما بُني في البادية. لا يتوفر وصف لقصر معاوية، المعروف بدار الإمارة، وهو المكان الذي سكنه أربعين عامًا. وبالمثل لا يتوفر شيء حول دار هشام بن عبد الملك أو عمر بن عبد العزيز. صحيح أنّ تحولات كثيرة طالت المدينة، مرةً هدمًا ودمارًا، ومرةً توسعًا وتمددًا، لكن غياب هذه الأوصاف يترافق مع غياب لخرائط المدينة في كل فترة من فتراتها. على هذا غلب على الكتابات حول دمشق الجانب السياحي الترويجي الذي تعامل مع المدينة التي وصلتنا بوصفها كنزًا هندسيًا ومعماريًّا، لا بوصفها فضاء للحياة والهموم والشقاء.

تضاف إلى هذا هالة القداسة التي كرستها الكتب التي تناولت فضائل الشام، إذ عُرف منذ بدايات الإسلام باب فضائل البلدان في تأليف الكتب، وهي طبعًا الفضائل الدينية، حيث تُجمع الأحاديث النبوية حول المكان، ومرويات الصحابة والتابعين والصالحين عنه، وسيرهم فيه، لتؤكد بأن هذا البلد أو الأرض مباركة من أجل الحثّ على السكنى فيها، ونالت بلدان عديدة حصتها من الفضائل كالبصرة والكوفة ومكة والمدينة وبغداد والقاهرة والمغرب والأندلس.

أحيطت بلاد الشام كلها، ومنذ بدايات الإسلام، بهذه الهالة القدسية، وإذا كانت كتابات مؤرخيها في القرن العشرين ركزت على هذه الفضائل دون غيرها، وكأن الرذائل ليست جزءًا من فضاء المدنية، فإنها أضافت إلى الكتابات السابقة نزعة أسطورية ترى في المدينة جنة الله على الأرض، مع أن مقومات هذه الجنة، الغوطة والنهر والهواء النقي صارت خبرًا بعد عين، حتى قبل الثورة والحرب.

تحولت تلك النزعة الأسطورية إلى نزعة متحفية، فجعلت دمشق تقتصر الجامع الأموي وقصر العظم وخان أسعد باشا.. وما يشبهها من المشيدات التاريخية، متناسية تلك الأحياء التي لا تمت للجمال والأساطير بصلة، والتي حلت محل الغوطة وتسلقت سفح جبل قاسيون، لكنها مع كل ذلك جعلت من المدينة عينة مصغرة عن كل سوريا.

لا يزال يوميات البديري الحلاق، أو حوادث دمشق اليومية، مرجعًا تاريخيًّا واجتماعيًا نادرًا لأنه ذهب باتجاه شؤون الحياة، ورسم صورة واضحة لأهل المدينة في تلك الفترة

في دمشق رغبة قديمة في احتواء سوريا، بل بلاد الشام كلها. فحي الصالحية بُني بعد مجيء المقاتلين الذي كانوا مع صلاح الدين من فلسطين إليها، ونشأ حي المهاجرين مع توافد مسلمين من بلاد البلقان واليونان، وحي الميدان تشكّل منذ العصر المملوكي ليكون نسخة عن سوريا كلها، فجامع الدقاق يحاكي الجامع الأموي، بل ويسمّى بالأموي الصغير. وفي الحي عائلات من حوران وحماة، بل إن بعض البيوت تأثرت بعمارة مدن أخرى في هذا الحي، فهناك القبيبات لأن النمط العمراني لمنازل هذه الحارة مشابه للنمط الموجود في الشمال السوري، خصوصًا في مناطق حماة وتدمر، لأنّ من سكنوا هنا جاؤوا من تلك المناطق، وبنوا بيوتهم على طرازها. وفيه حضور مسيحي كبير يعود إلى استقرار المسيحيين الذين هربوا من مجازر عام 1860 في لبنان في هذا الحي.

ظهرت في السنوات الأخيرة كتب كثيرة في التاريخ والمجتمع السوريين، منها المكتوب ومنها المترجم، ومنها من أراد استكشاف البلاد، ومنها من يسعى لكتابة تاريخ طائفي، ومهما تعددت الغايات فهذا يعني أن الجميع بات يريد كتابة روايته.

تاريخنا عمومًا كتبه العلماء، وهم علماء دين في صفتهم الغالبة، كتبوا عن أنفسهم ولها، لكنّ تلك الكتابة تغيّر وجهها، أو تراجعت إلى حلقات خاصة، منذ جاء وقت كتابة العوام من أمثال البديري الحلاق في دمشق، وحيدر رضا الركيني في جبل عامل.

لا يزال يوميات البديري الحلاق، أو حوادث دمشق اليومية، مرجعًا تاريخيًّا واجتماعيًا نادرًا لأنه ذهب باتجاه شؤون الحياة، ورسم صورة واضحة لأهل المدينة في تلك الفترة. فهل سيطول انتظارنا لحلّاق آخر يكشف رأس المدينة ووجها؟