16-مارس-2023
(رويترز) أطفال يلعبون في الأنقاض في مدينة دوما

(رويترز) أطفال يلعبون في أنقاض منزل في مدينة دوما

اختصر السوريون، مع التقدّم في الخسارة الدموية، نقاشاتهم إلى طهرانية بدت اقتراحًا مريحًا لانهزام خير الثورة لا أمام النظام وحسب، بل أمام شر العالم.

وعلى هذا النحو من التفكير، وضِعت القيم التي هُزمت، قيم الثورة، إلى جوار كل القيم التي يدرك الجميع أن العالم أسوأ من أن يسمح لها بالتحقق. ظلّت الثورة منزّهَةً عن أي نقد، ولم تُدرس بالشكل الذي يجعلها توضع ضمن أطر مفهومة، بل ظلّت تغلب عليها سرديات الأسطرة التي تنظر إلى بطولات العاديين بتبجيل، وهذا أمر ضروري ومفهوم، لكنه ليس كل شيء. كما ظلت تنظر إلى انقطاع العالم عن السوريين كما لو أنهم مرض، رغم ارتباط ذلك بسياقات سياسية أكثر من كونه لعنات قدرية.

في البدايات الأولى كانت الثورة السورية نقاشًا حيويًّا وصاخبًا يُعبّر عن اختلاف على كل شيء؛ على الماضي الوطني المسروق لصالح رواية بعثية، على النهب العام والفساد والتخلف وسوء الإدارة، على حكم المخابرات الجائر

صارت الثورة في خيال كثيرين مثالًا للخير. بل صارت مجال الخيّرين. وانتهى بهذا النقاش الموتور، حيث لا أحد يسمع أحدًا مع أنهم يدّعون التحدّث باسم المنطق أو الحقيقة، أو يتحولون إلى الشراسة باسم الأخلاق.

بعد انتهاء تقسيم الوضع السوري إلى شرّ هو النظام وخير هو الثورة في المراحل الأولى، جرى تقسيم للقسم الثوري في مرحلة ما بعد الهزيمة، إذ انفصل إلى خير وشر، وشمل الشرّ الجديد ما كان خيرًا في السابق، أي المعارضة السياسية الرسمية، بينما ظل الخير المستمر متجليًّا في من ينتمون إلى الثورة، دون أن يحتاج ذلك إلى تفسير.

في البدايات الأولى كانت الثورة نقاشًا حيويًّا وصاخبًا يُعبّر عن اختلاف على كل شيء؛ على الماضي الوطني المسروق لصالح رواية بعثية، على النهب العام والفساد والتخلف وسوء الإدارة، على حكم المخابرات الجائر.. كان ذلك النقاش قابلًا ليقود نحو جردة حساب شاملة، إلى أن قطَعَه مشروع العنف الدموي الذي أطلقه النظام ليُحكم قبضته مُجددًا على ما يُفلت منها.

وظل النقاش يخفت إلى أن وصلنا إلى اللحظة التي باتت فيها المواجهة محصورة بين النظام وبين مجموعات ذات هوية دينية، إذ بدا الشعب السوري مجرد ضحايا علقوا بالخطأ عند خطوط تقاطع نيران، لكنّ تصاعد الوحشية الانتقامية للنظام دفعت كثيرين منا لدعم تلك المجموعات، انطلاقًا من نظرة براغماتية تؤمن أن أي وباء أهون من هذا النظام.

عندما بدا أن هذه القوى شكلٌ آخر للنظام الاستبدادي أضاف السوريون المتأملون بخلاص جرحًا إضافيًّا إلى جراحهم.

ومع اشتداد الشعور بالخيبة والخذلان، لا سيما مع انغلاق كل آفاق الحلّ السياسي، بدأت تعلو نبرة فردية، يُقدّم كل متكلم نفسه على أنه يتحدث عن الثورة والموت والخراب من زاويته الخاصة كفرد. لا مشكلة في ذلك. المقاربة الفردية مهمة. إنها التفصيل الذي يضاف إلى التفاصيل الأخرى لتبني الجدارية الكبيرة. لكن المشكلة العويصة هنا أن تُوضع الذات بموازاة الجماعة.

هكذا دخلنا رسميًّا في الصدمة الجماعية، فمن أعراضها أن يُسجل الجميع النقاط على بعضهم البعض، من قبيل: هذه لم تشارك في التظاهرات، هذا لم يعتقل، أنا أشرف منك، أنتِ متأخرة عني يومين في حسم الموقف من النظام.. إلخ.

ما يستوجب الانتباه ههنا أنّ الجرح هو الذي يتكلم، وأن هذه ليست آراءً عقلانية، إنما هي هلوسات ألميّة.

يفقد المهزومون الإيمان بالجماعة، ويرفضون الاعتراف بالهزيمة كمشكلة تشمل الجميع، ويسعى كل واحد منهم إلى رمي وزرها على الآخرين

يفقد المهزومون الإيمان بالجماعة، ويرفضون الاعتراف بالهزيمة كمشكلة تشمل الجميع، ويسعى كل واحد منهم إلى رمي وزرها على الآخرين.

بهذا المعنى، الفردية التي علا صوتها في السنوات الأخيرة عارض من أعراض عدم الاعتراف، أو رغبة بالدفاع عن الذات وخياراتها الصائبة التي لا تقبل نقاشًا.

على هذا، وإن كانت ثمة هزيمة فهي هزيمة للثّوار لا للثورة. وهؤلاء هُزموا لأسباب تخصّهم هم، أو تخص ارتباطاتهم، ولا علاقة للفكرة الثورية النبيلة بذلك إطلاقًا. في نظرة قدسية تجعل من الثورة قضية بحد ذاتها لا طريقة لإنهاء الاستبداد.

بمثل هذه المبرّرات والرؤى العقيمة اتسعت الشروخ النفسية في البشر، وغدا أفق التفكير مغلقًا بالكامل.

وعلى كل قتامة المشهد بدأت بوادر الاعتراف بالهزيمة بعد التدخل الروسي لصالح نظام الأسد. وقتها وجد الرافضون للاعتراف في عامل القوة الساحقة التي يمتلكها الروس مبررًا مقبولًا، دون النظر في أن انتصار الثورة ما قبل هذا التدخل لن يكون انتصارًا أبدًا، بل دخول سوريا في متاهة أخرى.

ما يهم أن الهزيمة فتحت مساحة ملائمة للنقاش مرة أخرى، من خلال القبول العام بالفشل وإعلان التخلي عن الذين يُعلنون تمثيلهم للشعب السوري.

لا تعني الهزيمة زوالنا من الوجود، أو انقراضنا وانقطاع أثرنا، لأنه مهما بلغ حدّ هذه الخسارة لا يمكنه أن يكون مطلقًا، لأنّ الأمم أكبر من كونها كياناتٍ سياسيةً أو قوى عسكرية، بل هي ثقافة ومجتمع، وهذه تقبل التغيير والتطوير.

يمكن للهزيمة أن تكون دافعًا للنظر في الأسباب، ومواجهة الذات ووضعها أمام خيارات حاسمة، ما يساهم في استيلاد هوية جديدة، فبوسع للجماعة المهزومة أن تطور سردية أمة. وبعد قبول الهزيمة، والمواجهة مع الذات، والاختيار لشكل المستقبل، تبدأ ثقافة جديدة.

غير أن الإشكال يبقى في أن مجتمع الصدمة الجماعية يأبى أن يفهم ما جرى، ويَعلقُ في فخ آلامه. ومثلما تصبح لحظة إطلاق رصاصة عند شخص شهدَ موت عزيز عليه لحظةً أبدية، تصبح آلام الماضي والتجربة القاسية أطول وأوسع مما هي في الحقيقة. ويتفاقم ذلك بالطبع حين يحتاج الأفراد إلى بعضهم البعض، فيجدون أن المجتمع الذي يمثّل الوسادة المريحة والحضن العاطفي والسلوى اختفى، بسبب التمزق في الروابط النفسية، والاقتلاع من المكان، وهنا يغدو الأفراد مثل طوف خشبي يدور في دوامة مائية.

إلا أنه عندما يبدأ هؤلاء الأفراد بإدراك حقائق الحياة البسيطة مرة أخرى، يجدون أن المجتمع لم يمت تمامًا في عالم ما بعد الكارثة.

جاء القبول السوري بالهزيمة في النهاية، وإن مُتدرّجًا. حدث ذلك في لحظة تيه. وقتها بدأت بوادر علاقات الداخل والخارج تعود إلى شيء من التواصل. بعد فترة أقرب إلى الانقطاع ظهرت فيها الكثير من الاتهامات، من خارج يرى الداخل متخاذلًا لا يفكر بالكرامة، وداخل يرى الخارج متنصّلًا من كل مسؤولية.

ما نحتاجه في ذكرى الثورة هو فهم هذه الصدمة الجماعية التي نعيشها الآن، لأن ذلك سيكون خطوة أولى في التعافي والشفاء، فالمكابرة عليها تديم الشقاء وتمحو احتمال الشفاء

المبشِّر في هذا أن الاعتراف بالهزيمة سيقودنا إلى المراجعة والمساءلة، لأن كل قول بأن الهزيمة لم تحدث ليس مجرد إنكار، بل دفع للتضحية بالمزيد من الناس، لا لشيء سوى أن الداعين إلى الثبوت حتى النصر الواثقين منه يؤجلون المساءلة الشعبية القادمة لا محالة.

في سوريا، انهارت الثقة وتقوّض التماسك الاجتماعي، والنتيجة الخطرة لهذا، فوق ما فيه من غضب وتوتر ورغبة في الانتقام، هو أنّ العنف وجد شرعية للبقاء، وأسبابًا للاستمرار في حلقات يصعب كسرها، ما يعني أن هذه الآثار القاسية ستمد لعقود بما يؤكد أن النفسية الجماعية ستورث صدمتها للجيل المقبل.

ولأنّ الحلم هو إعادة الثقة وبناء التفاهم والعلاقات السليمة بين السوريين، فإن الضروري والملحّ هو العمل على تعافٍ اجتماعي في عملية طويلة الأمد، تتطلب جهودًا متنوعة منا ومن الآخرين، في سبيل هيكلة نفسية سورية جديدة. والواجب على الذين يعون ذلك أن يبدأوا في التعافي والتخلص من آثار الصدمات النفسية، ليكونوا روّاد مرحلة إرساء التفكير والتعاون ونبذ التوتر.

ما نحتاجه في ذكرى الثورة هو فهم هذه الصدمة الجماعية التي نعيشها الآن، لأن ذلك سيكون خطوة أولى في التعافي والشفاء، فالمكابرة عليها تديم الشقاء وتمحو احتمال الشفاء.

ربما ما نحتاج إليه في هذه المرحلة هو ابتكار سرد جديد لقصتنا، وخلق معنى آخر لفكرتنا عن أنفسنا، وما نريده، ولتصورنا لهدفنا الكبير.

لا بد لنا من أجل الخروج من الصدمة أن نفهم ما جرى، فالصدمة، كما يقول المتخصصون في دراستها، قصةٌ لها بداية ووسط ونهاية. إذًا من يرو القصة يفهمْ نفسه، ومن يفهمْ نفسه يدركْ ارتباطه بالآخرين.

ما يجب أن نفعله الآن هو أن نروي ونفهم ونبني سردًا جديدًا، لئلا تستمر الصدمة.