20-أغسطس-2023
تصوير قدوم بلقيس (ويكيبيديا)

تصوير قدوم بلقيس (ويكيبيديا)

يورد كرم البستاني في كتابه "أساطير شرقية" بأنّ الإنسان القديم اخترع الأسطورة لأنّه لم يستطع تفسير ما حوله من مدهشات الكون وأعاجيبه بشكل علمي، حيث دفعت به عدم قدرته على إيجاد تفسير علمي للكثير من الظواهر من حوله، إلى أن يبتدع لها تفسير معين ويتوهّم فيها أصول ووقائع معينة يرتاح إليها.

جماليات الأسطورة -بحسب البستاني- تجيء من كونها تخترع عوالم غرائبية وعجائبية تجذب النفس الإنسانية إلى مطالعتها والتبحّر فيها، للتمتّع بما فيها من سحر الخيال والعوالم الغامضة، حيث يقول: "وليس أمتع للنفوس من الغرائب والتخيلات.. ولا سيما أن عصرنا هذا عصر مادّة تغذي الجيوب، ولكنها لا تشبع الأرواح، تلك الأرواح التي يلذها، من حين إلى حين، أن تسيح في العوالم الخيالية لتنزّه عنها وتفرّج همومها".

سليمان بحسب القرآن هو أحد أنبياء الله، اصطفاه، وأورثه ملك داوود. ومعجزته هي تسخير الرياح له وتعليمه منطق ولغات الكائنات الأخرى من جنّ وطير وحيوانات

يخصّص البستاني كتابه السابق لرواية وتفسير عدد من الأساطير الشرقية، ومن بين تلك الأساطير، أسطورة سليمان وبلقيس، التي جمع تفاصيلها من عدة كتب ومراجع تراثية تاريخية، وفي تفاصيل روايته لقصة بلقيس وسليمان يوضّح المؤلّف أنّ هناك فروقات كبيرة، بين كيفية ورود القصة في الكتب السماوية، وكيفية ورودها في تفاصيل الأسطورة الموجودة في الكتب التاريخية والتراثية.

وفعلًا، بعد مطالعتي وقراءتي للقصة كما ترويها الأسطورة، لاحظت أنّ هناك العديد من الإضافات التي تذكرها الأسطورة ولم تأت آيات القرآن الكريم –التي تورد قصتهما- على ذكرها، فالتعريف بسليمان يرد في آيات من سورتي سبأ والنمل، كما في قوله تعالى: "وورث سليمان داوود وقال يا أيّها النّاس علّمنا منطق الطّير وأوتينا من كلّ شيءٍ إنّ هذا لهو الفضل المبين. حُشر لسليمان جنوده من الجنّ والإنس والطّير فهم يوزعون".

سليمان بحسب القرآن هو أحد أنبياء الله، اصطفاه، وأورثه ملك داوود، وجعل له معجزات معينة كدليل على نبوته، ومعجزته هي تسخير الرياح له وتعليمه منطق ولغات الكائنات الأخرى من جنّ وطير وحيوانات، وتسخيرهم له وفي سبيل خدمته.

أما في الأسطورة الشرقية فسليمان هو رجل حكيم وملك عظيم من ملوك زمانه، ورث عن أبيه الملك داوود الملك، وخضعت له الريح والطير والجنّ والشياطين والعفاريت، بفعل خاتم سحري، التقطه في يوم من الأيام وهو ذاهب إلى الصيد، وأصبح يطلق عليه اسم خاتم سليمان.

وعن تفاصيل لقاء سليمان ببلقيس فتروي آيات سورة النمل بأنّ النبي سليمان تفقّد ذات يوم الطيور الذي جعلت في خدمته، فلما لم يجد الهدهد، فرأ في غيابه تقصيرًا صريحًا في أداء مهامه، وتوعده بالذبح، فلما عاد الهدهد، أخبر سليمان بأنّه جاءه من مملكة تدعى سبأ -تقع في تخوم اليمن- بأخبار لا يعلمها، وأنّه وجد امرأة (بلقيس لم يرد اسمها بالذكر الصريح في الآيات) تقوم مقام الملكة لهذه المملكة، وأنّها وقومها يعبدون الشمس من دون الله.

وتخبر آيات السورة بأنّ النبي سليمان يرسل لبلقيس رسلًا ليدعوها وقومها للإسلام أو الحرب معه، وأنّها في محاولة منها لثني سليمان عن محاربتها ترسل له برسل محملين بالهدايا العظيمة، وأنّه لما يرى رسلها يصرّ على قراره بحربها، ويدعوها أن تأتي إليه لترى عظمة ملكه، ويطلب من أحد الجان الذين يعملون في خدمته، أن يأتوه بعرشها قبل أن يتمّ رمشة عينه، ويطلب من أتباعه التغيير والتبديل في شكل عرشها، فلما تجيء إليه وترى عرشها يشتبه عليها، ولما كان يريد منها أن ترى من سلطانه، ما يبهر العقول، يأمرها أن تدخل الصرح، وهو المجلس المرتفع المتسع، وكان مجلسًا من قوارير زجاجية شفافة تجري تحته الأنهار، فلما تراه تحسبه ماءً فتكشف عن ساقيها لتدخله، ولما يخبرها عن حقيقته، يبهرها ما ترى، فتقرّ بظلمها لنفسها وتسلم معه.

يخبرنا القرآن الكريم بأنّ النبي سليمان أرسل لبلقيس رسلًا يدعوها وقومها للإسلام أو الحرب معه، وأنّها في محاولة منها لثني سليمان عن محاربتها ترسل له برسل محملين بالهدايا العظيمة

ومما تضيفه الأسطورة الشرقية على تفاصيل تفقّد سليمان للهدهد أنّه لمّا نزل ببلاد اليمن، التقى هدهده وكان يدعى يعفور، مع هدهد تلك البلاد وكان يدعى عفرين، وأنّ ذلك الهدهد أقنعه ليذهب معه ليريه ملك بلقيس وعظمة عرشها، فترك مكانه في جند سليمان من الطيور الذين ينتظمون فوق رأسه ليقوه من حرّ الشمس، وأنّ سليمان اكتشف غيابه لما أصابته نفحة من الشمس من الموضع الذي كان يحلّق فيه، فغضب غضبًا شديدًا، وتوعّده بالعذاب.

ومما تضيفه الأسطورة على تفاصيل لقائه ببلقيس أنّ الجن لما علموا أن بلقيس آتية لسليمان، خشي أن يقع في حبّها ويتزوجها، فتلد له ولد أكثر منه فطنة وقوة، وخافوا بعد أن يموت أن يخرجوا من ملكه إلى ملك ولده الأشدّ منه، فحاولوا تشويه صورة بلقيس أمامه، وأخبروه أنّ في عقلها شيئًا وأنّها شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار.

تحكي الأسطورة أنّ بلقيس لما همّت بدخول الصرح ورأت الماء تحته، قالت في نفسها: إن سليمان يريد أن يغرّقني وكان القتل علي أهون، وأنّ سليمان رأى فيها رجاحة عقلها بعد إجابتها عن عرشها التي لم تؤكّد وتنفي فيها أنّه هو، ورأى فيها أحسن الناس ساقًا رغم أنّها شعراء الساقين، وأنّه أراد أن يتزوجها، لكنّه كره شعر ساقيها، فعملت له الشياطين النّورة والحمّام، فكانت النورة والحمام منذ ذلك اليوم، فطلت بلقيس ساقيها فسقط شعرهما، ثم تزوجها سليمان، فولدت له غلامًا سماه داود مات في حياته، ثم ماتت بلقيس قبل سليمان، في الشام، فدفنها في تدمر وأخفى قبرها عن الناس.

هناك العديد من التفصيلات الأخرى التي تستطرد الأسطورة الشرقية في روايتها عن بلقيس وسليمان، وهي تفصيلات قد يكون الخيال البشري ابتدعها، وتصوّرها وتخيلها، بما يتناسب مع العوالم الخيالية التي تنضوي عليها الأسطورة، وبما ينسجم مع العناصر الجمالية التي يحتويها طبيعة تكوينها.