15-أبريل-2022
تمثال هيرودوتس

تمثال هيرودوتس

قلتُ سأستعيرُ من كلمة لـ هيرودوتس، الذي أصبح أول مؤرّخ عرفته البشرية، تلك المقولة الّتي وصف بها مصر حين زارها. عندما قال: "إنّ مصر هي هبة النيل"، أستعيرها هنا لأذكّره بهبة أخرى أوسع وأشمل وهي الّتي أهداها هذه المرّة إلى طفولة البشرية.

ذلك أنّ هيرودوتس الّذي لم يكن مؤرّخًا، لأنّ التّاريخ كعلم لم يكُن معروفًا قبله، وكان هو نفسه مستشارًا عسكريًّا للجيوش اليونانيّة، وكان كتابه المقدّس الّذي حمله معه "إلياذة هوميروس".

‎يوم كان الشّعر هو القداسة، كان القادة العسكريّون يختارون كتابًا مِن طِرازٍ رفيعٍ ليسجّلوا وقائعَ المعارك والأحداث وكان من بينهم شخصٌ اسمه هیرودوتس

يوم كان الشّعر هو القداسة، كان القادة العسكريّون يختارون كتابًا مِن طِرازٍ رفيعٍ ليسجّلوا وقائعَ المعارك والأحداث وكان من بينهم شخصٌ اسمه هیرودوتس. هذا الأخير يحبُّ أن يسجّل ملاحظات ويدوّن أحداثًا يعيشُها خلال الحملات العظيمة للجيوش اليونانيّة لا لأجل أحد أو لدور وظيفيّ إنما لنفسه وحسب.

هكذا، شيئًا فشيئًا، صارت "دفاتر هیرودوتس" علمًا سُمِّيَ التاريخ. لم يكن يعلم هيرودوتس آنذاك أنَّ "تاريخه" هذا سيتحوّل إلى دمية عظيمة تلهو بها البشريّة منذُ نعومة أظفارها.

كان يجهل أنّه أهدى، دون أيِّ معرفة، وأكثر من ذلك أن هديّته هذه ستصبح أعظم دمية لطفولة الإنسانيّة ولشيخوختها في ما بعد.

التّاريخ كما هو واضح اليوم قد صار دميةَ الإمبراطوريات والممالك والجمهوريّات والسّلطات الدّينيّة والدنيويّة بكلّ أشكالها، وهي تتعاقب على اللّهو به ما استطاعت لذلك سبيلًا. وبمرور الزمن وتعاقبه تبلورت صورة الدّمية هذه، وأكثر تبلورت صورة اللّاعبين بها، فصرنا نرى كيف تمسك هذه القوى والسّلطات بالتّاريخ وتفعل به ما تريد تمامًا. كما يفعل الأطفال بدُماهم فهم يستنطقونَها تارةً بلغاتهم وأخرى يُسكتونَها عندما لا يروق لهم صوتها، يعزونها ليلبسوها أزياءهم، ويصبغونها بألوان آلهتهم ورموز حكمتهم أو يغيّرون حتّى ملامحها وهم في كلّ ذلك أسياد تقودهم حمى السّلطة والقوّة لا غير.

تلك هي ثنائيّة القوّة السّلطة والزّمن أي التّاريخ. نقيضان لا بدّ لكلّ منهما من الآخر كما يقول برغسون، کوکبان يتصارعان على مدار واحد. مدارُ الإنسان، كلاهما قوّة. الأولى السّلطة موجبة، والثانية التاريخ سالبة وما هو "الآن" هو الفريسة الّتي يتربصان بها معًا، أيّهما ينقضُّ عليها أوّلًا.

في هذه الثنائية يتحرّك الكلام، تنتصر السّلطة بسرعة لكن التّاريخ لا يلبث إلّا أن يستعيدَ الدّور ويقول كلمة الفصل وهكذا. لن يتعلّم أحدهما من الآخر الدّرس. تذكّرت هبة هيرودوس هذه، اليوم أمام الصرّاعات التي تخترق عالمنا المعاصر وكيف أنّ كلّ قوّة تهيمن أو بالكاد على مساحة ما من الأرض والنّفوس تبدأ بإعادة خياطة سترة التاريخ على جلباب الماضي، وعلى مقاساتها. مقاساة يقول العراقيون أنّها "توصى"، وفق الحاجات والضرورات التابعة لمناخها القومي والجغرافي. هذا السّلوك الّذي لم يكُن طارئًا ولا جديدًا، فهو معروف في حياة الشّعوب كلّ الشّعوب، قد أخذ اليوم - وبسبب الانفجار البركانيّ لثورة المعلومات الّتي غيّرت سطح الكوكب بشريًّا وتضاريسيًّا – شكلًا في غاية الخطورة وذلك بسبب شيوع الثّورة المعلوماتيّة وامتلاك كلّ فرد مصادر المعلومات ونشرها فقد صار بإمكانه - كفرد - أن يمسك بطريقته ناصية التاريخ الذي كان دمية الكبار والدّول والسّلطات.

تحوّل التّاريخ عبر الإنترنت ووسائل التّواصل الاجتماعي إلى دمية بيد كلّ من يريد أن يلهو بها. هذه اللّعبة الخطيرة صارت لعبة حقيقيّة بيد المليارات من البشر

هكذا تحوّل اليوم هذا التّاريخ عبر الإنترنت ووسائل التّواصل الاجتماعي إلى دمية بيد كلّ من يريد أن يلهو بها. هذه اللّعبة الخطيرة صارت لعبة حقيقيّة بيد المليارات من البشر. ماذا يعني هذا وماذا سيعني؟ نحنا أمام منعطف زمنيّ/ بشريّ لا ندرك أعماقه الآن ولا نستطيع سبر هاويته وغوره أو حتّى سمائه. وإنّنا اليوم أجيال تهبط على كوكب جديد اسمه الانترنت والميتافيرس تكتشفه لأول مرّة. كوكب تقوده عبر مدار مجهول النّهايات سبابتان كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير وهو الّذي سمّى هذا الجيل جيل السّبابتين ويقصد بذلك حركة الأصابع على شاشة اللابتوب والأيفون. هاتان السّبابتان تقودان اليوم كوكبنا عبر مدار زمكاني غير محدد النهايات.

قُل لي، سيّدي المستشار هيرودوتس، مِنْ حيثُ أنتَ الآن، من هو الإسكندر المُقبل الّذي سيقودُ شعوبَ السّبابتين؟